ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها ، لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها ، وحكم العنين (١) العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة ، لا يكون كحكم المتصون الزاهد المتورع في إمساكه عن قضاء الوطر (٢) مع القدرة عليه. فإن الأول مضطر عاجز ، والثاني مختار قادر ، حسن الاختيار ، جميل التصرف. وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين ، وإنما الكمال كله في استخدام القوتين.
فنفس النبي عليه الصلاة والسلام كنفوس الروحانيين : فطرة ، ووضعا. وبذلك الوجه وقعت الشركة. وفضلها وتقدمها باستخدام القوتين اللتين دونها ، فلم تستخدمه. واستعمالها في جانب الخير والنظام ، فلم تستعمله ، وهو الكمال.
قالت الصابئة :
الروحانيات صور مجردة عن المواد ، وإن قدّر لها أشخاص تتعلق بها تصرفا وتدبيرا ، لا ممازجة ولا مخالطة ، فأشخاصها نورانية أو هياكل كما ذكرنا. والفرض أنها إذا كانت صورا مجردة كانت موجودات بالفعل لا بالقوة : كاملة لا ناقصة : والمتوسط يجب أن يكون كاملا حتى يكمل غيره ، وأما الموجودات البشرية فصور في مواد ، وإن قدّر لها نفوس ، فنفوسها إما مزاجية ، وإما خارجة عن المزاج. والفرض أنها إذا كانت صورا لفي مواد ، كانت موجودات بالقوة لا بالفعل ، ناقصة لا كاملة ، والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمرا بالفعل (٣) ، ويجب أن يكون غير ذات ما يحتاج إلى الخروج ، فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل ، بل بغيره ، والروحانيات هي المحتاج إليها حتى تخرج الجسمانيات إلى الفعل ، والمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج؟.
__________________
(١) العنين : المعترض بالفضول.
(٢) الوطر : الحاجة والأرب. قال الله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً). قال الخليل : الوطر كل حاجة يكون لك فيها همة ، فإذا بلغها البالغ قيل : قضى وطره وإربه.
(٣) لأن الفعل متقدّم على القوة منطقيا وزمانيا ، كما أن الصورة متقدّمة على المادة. والبرهان على ذلك أن الأزلي متقدّم بالطبع على ما هو زائل. ولا يكون شيء أزليا بفضل القوة لأن ما له قوة الكون له أيضا قوة العدم.