قال : وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس ، وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط. فلم نقدر في الوجود جوهرا مطلقا قابلا للأبعاد ثم لحقته الأبعاد ، ولا جسما عاريا عن هذه الكيفيات ، ثم عرض له ذلك ، وإنما هو عند نظرنا فيما هو أقدم بالطبع ، وأبسط في الوهم والعقل.
ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد ، ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير ، وهي طبيعة السماء ، وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه. ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة ، ويتحرك بحركة خاصة ، ولكل متحرك محرك مزاول ، ومحرك مفارق ، والمتحركات أحياء ناطقون ، والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر. وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان بالاشتراك ، فترتيب العالم كله علويه وسفليه على نظام واحد ، وصار النظام في الكل محفوظا بعناية المبدأ الأول على أحسن ترتيب وأحكم قوام ، متوجها إلى الخير ، وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على نوع نوع ليس على ترتيب المساواة ، فليس حال السباع كحال الطير ، ولا حالها كحال النبات ، ولا حال النبات كحال الحيوان.
قال : وليس مع هذا التفاوت منقطعا بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض ، بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل ، تجمع الكل إلى الأصل الأول الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه. قال : وترتيب الطباع في الكل كترتيب المنزل الواحد من الأرباب ، والأحرار ، والعبيد ، والبهائم ، والسباع. فقد جمعهم صاحب المنزل ، ورتب لكل واحد منهم مكانا خاصا ، وقدر له عملا خاصا. ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا ، فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام. فهم وإن اختلفوا في مراتبهم ، وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم، منتسبون إلى مبدأ واحد ، صادرون عن رأيه وأمره ، مصرفون تحت حكمه وقدره ، فكذلك تجري الحال في العالم ، بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة، مثل