قالت الصابئة :
نوع الإنسان ليس يخلو من قوتي الشهوة والغضب ، وهما ينزعان إلى البهيمية والسبعية ، وينازعان النفس الإنسانية إلى طباعها. فيثور من الشهوية : الحرص والأمل. ومن الغضبية : الكبر والحسد ، إلى غير هما من الأخلاق الذميمة. فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما؟! صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية كلها ، خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها ، لم يحملهم الغضب على حب الجاه ، ولا حملتهم الشهوة على حب المال ، بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة ، وجواهرهم مفطورة على الألفة والاتحاد.
أجابت الحنفاء :
بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل (١) ، فإن في طرف البشرية نفسين : نفس حيوانية لها قوتان : قوة الغضب ، وقوة الشهوة. ونفس إنسانية لها قوتان : قوة علمية ، وقوة عملية. وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع ، وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال. ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل. فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ له ، من العقائد : الحق دون الباطل. ومن الأقوال : الصدق دون الكذب. ومن الأفعال : الخير دون الشر ، ويختار بقوته العملية من لوازم القوة الغضبية : الشدة ، والشجاعة ، والحمية ؛ دون الذلة والجبن والنذالة. ويختار بها أيضا من لوازم القوة الشهوية : التآلف ، والتودّد ، والبذاذة (٢) دون الشره ، والمهانة ، والخساسة. فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه ، ومن أرحم الناس تذللا وتواضعا لوليّه وصديقه. وإذا بلغ هذا الكمال فقد استخدم القوتين ، واستعملهما في جانب الخير. ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق ، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب ، وإبلاغها إلى حد الكمال.
__________________
(١) الحذو : التقدير والقطع ، وفي الحديث : لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر الأخرى. (انظر لسان العرب مادة حذا).
(٢) البذاذة : رثاثة الهيئة ، وفي الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم : البذاذة من الإيمان ؛ قال الكسائي : البذاذة هو أن يكون الرجل متقهّلا رثّ الهيئة.