وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين :
أحدهما : أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد ، والجسماني المجرد. فحكمتم بأن الفضل للروحاني ، وصدقتم. لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد ، والجسماني والروحاني المجتمع. ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد ، فإنه بطرف ساواه ، وبطرف سبقه. والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها ، ولم تؤثر فيه أحكام التضادّ والازدواج ؛ بل كان مستخدما لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه ، بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله حصل التركيب ، وعطلت الوحدة والبساطة ، وذلك تخليص النفوس التي تدنّست بالمادة ولوازمها وصارت العلائق عوائق.
وليت شعري : ما ذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل؟ وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم؟ ونعم ما قيل (١) :
إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه |
|
فكلّ رداء يرتديه جميل |
وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها |
|
فليس إلى حسن الثّناء سبيل |
هذا كمن خاير بين اللفظ المجرّد والمعنى المجرّد : فاختار المعنى ، قيل له : لا بل خاير بين المعنى المجرّد ، والعبارة والمعنى حتى لا يشكل ، إذ المعنى اللطيف في العبارة الرشيقة أشرف من المعنى المجرّد.
والوجه الثاني : أنكم ما تصورتم من النبوة إلا كمالا وتماما فحسب. ولم يقع بصركم على أنها كمال هو مكمّل غيره ، ففاضلتم بين كمالين مطلقا ، وما حكمتم إلا بالتساوي وترجيح جانب الروحاني! ونحن نقول : ما قولكم في كمالين؟ أحدهما كامل ، والثاني كامل ومكمل عالما ، أيهما أفضل؟.
__________________
(١) قائل هذين البيتين هو السموأل بن عادياء الأزدي ، وهو شاعر جاهلي حكيم من سكان خيبر ، كان ينتقل بينها وبين حصن له «الأبلق». وهو الذي تنسب إليه قصة الوفاء مع امرئ القيس الشاعر. متوفى نحو ٦٥ ق ه / نحو ٥٦٠ م. (الأعلام ٣ : ١٤٠ وانظر معاهد التنصيص ١ : ٣٨٨ وياقوت في معجم البلدان ١ : ٨٦) ..