قال : إن الباري تعالى لم يزل بالأزلية التي هي أزلية الأزليات ، وهو مبدع فقط. وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته عنده ، أي كانت معلومة له فالصور عنده بلا نهاية ، أي المعلومات بلا نهاية. قال : ولو لم تكن الصور عنده ومعه لما كان إبداع، ولا بقاء للمبدع. ولو لم تكن باقية دائمة لكانت تدثر بدثور الهيولى ، ولو كان ذلك كذلك لارتفع الرجاء والخوف. ولكن لما كانت الصور باقية دائمة ، ولها الرجاء والخوف : كان ذلك دليلا على أنها لا تدثر ، ولما عدل عنها الدثور ولم يكن له قوة عليها كان ذلك دليلا على أن الصورة أزلية في علمه تعالى ، قال : ولا وجه إلّا القول بأحد الأقوال : إما أن يقال الباري تعالى لا يعلم شيئا البتة ، وهذا من المحال الشنيع. وإما أن يقال يعلم بعض الصور دون بعض ، وهذا من النقص الذي لا يليق بكمال الجلال ، وإما أن يقال : يعلم جميع الصور والمعلومات ، وهذا هو الرأي الصحيح.
ثم قال : إن أصل المركبات هو الماء ، فإنه إذا تخلخل صافيا وجد نارا ، وإذا تخلخل وفيه بعض الثقل صار هواء ، وإذا تكاثف تكاثفا مبسوطا بالغا صار أرضا.
وحكى فلوطرخيس أن هرقليطس زعم أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت ، وجوهر البخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
٢ ـ رأي أكسنوفانس (١)
كان يقول : إن المبدع الأول هو آنية أزلية دائمة ديمومة القدم ، لا تدرك بنوع
__________________
(١) أكسنوفانس : ولد سنة ٥٧٠ ق. م. في قولون بالقرب من أفسوس. ويرجح أن غزو الفرس لبلاده حمله على مغادرتها فضرب في مناكب الأرض يطوف في أنحاء العالم اليوناني ينشد الشعر في المحافل والأعياد ، ولم يزل يجول ويطوف حتى أوفى على التسعين.
كان أكسنوفانس شريف النفس ، حر الفكر ، مرّ النقد ، قال ساخرا من تكريم الناس للمصارعين : إن حكمتنا خير وأبقى من قوة الرجال والخيل. وقال متهكما من فيثاغورس لاعتقاده بالتناسخ : أنه مرّ ذات يوم برجل يضرب كلبا فأخذته الشفقة فصاح وهو ينتحب : أمسك عن ضربه يا هذا! إنها نفس صديق لي ، لقد عرفته من صوته. ـ