وتلك المثل هي مبادي الموجودات الحسية ، منها بدأت ، وإليها تعود.
ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف، كانت موجودة قبل وجود الأبدان. وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي ، وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض ، وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء ، وقالوا : إن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان.
وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما سيأتي في حكايته أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون في كون النفس موجودة قبل وجود الأبدان (١) ، إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره.
وخالفه أيضا في حدوث العالم : إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها ، لأنك إذا قلت حادث فقد أثبتّ سبق الأزلية لكل واحد ، وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل. قال : وإن صورها لا بد وأن تكون حادثة ، لكن الكلام في هيولاها وعنصرها. فأثبت عنصرا قبل وجودها. فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم. وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته ، وأطلق لفظ الإبداع على العنصر ، فقد أخرجه عن الأزلية بذاته ، بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادي التي ليست زمانية ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني. فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني. والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني.
وقال : إن العالم لا يفسد فسادا كليا. ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس :
ما الشيء الذي لا حدوث له؟ وما الشيء الحادث وليس بباق؟ وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدا بحال واحدة؟ وإنما يعني بالأول : وجود الباري تعالى.
__________________
(١) وقد أخذ أفلاطون عن فيثاغورس فكرة وجود النفس قبل الجسد ، ولا نستطيع التأكيد هل آمن بهذه الحقيقة أم لا. أما ما لا يقبل الشك فهو اعتقاده بخلود هذه النفس ، وله على هذا الخلود براهين متعددة نجد أهمها في حوار «فيدون» الذي وصف فيه سقراط قبيل تجرعه السم القاتل.