كان لما يدركه العقل مطابقا مقابلا من خارج. فما يكون مدركا لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك.
قال : والعالم عالمان : عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية ، كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات ، فإن الصور فيها مثل الأشخاص ، وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها ، غير أن الفرق المنطبع في المرآة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك ، وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك ، فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص ، فلها الوجود الدائم ، ولها الثبات القائم ، وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها. قال : وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية ، لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم الأول الحق ، والصور عنده بلا نهاية ، ولو لم تكن الصور معه في أزليته ، في علمه لم تكن لتبقى ، ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى ، ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف ، ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها ، وإنما تبقى إذا كانت لها صور عقلية في ذلك العالم (١) ترجو اللحوق بها ، وتخاف التخلف عنها.
__________________
(١) ذلك أن أفلاطون في كثير من أقاويله يومئ إلى أن للموجودات صورا مجردة في عالم الإله ، وربما يسميها المثل الإلهية.
ويوضح أفلاطون ذلك بقوله : إننا حيث نجد عددا من الأفراد يشتركون في الاسم ، فإن لهم مثالا مشتركا أيضا. فإننا ندرك عددا كبيرا من الأسرّة ، وليس لها كلها إلا مثال واحد. وكما أن انعكاس السرير في المرآة هو مظهر فقط ، وليس «بالحقيقي» فكذلك الأسرة الكثيرة الجزئية ليست بالحقيقة ، وما هي سوى نسخ عن «المثال» الذي هو السرير الحقيقي الوحيد.
وتصوّر هذا المثال هو «المعرفة» وأما الإدراك الحسي للأسرة فهو مجرد «الرأي».