أقول : في هذا الحديث أسرار غريبة ، الأوّل إطاعة الوحوش لهم عيانا وسماعا ، والثاني إخباره أنه لم يغب عنهم وأنه يشهد سائر أوليائه لأن الإمام مع الخلق كلّهم لم يغب عنهم ، ولم يحتجبوا عنه طرفة عين ، ولكن أبصارهم محجوبة عن النظر إليه ، وإن الدنيا بين يدي الإمام كالدرهم بين يدي الرجل يقلّبه كيف شاء ، والثالث أنه أنكر عليه وقال : أتراني لم أشهدكم؟ حيث إنه حسب أن الحجّة لا يشهد لمحجوج عليه بعد أن يثبت أنهم عين الله الناظرة في عباده ، ويده المبسوطة بالفضل في بلاده ، ولسانه المترجم عنه ، وأن قلوب الأولياء مكان مشيئة الله وخزائن أسراره وباب حكمته.
ومن ذلك ما رواه أبو بصير قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : إن المعلى بن خنيس ينال درجتنا ، وإن المدينة من قابل يليها داود بن عروة ، ويستدعيه ويأمره أن يكتب له أسماء شيعتنا فيأبى فيقتله ويصلبه ، فينال بذلك درجتنا ، فلمّا ولي داود المدينة من قابل أحضر المعلّى وسأله عن الشيعة فقال : أعرفهم ، فقال : اكتبهم لي وإلّا ضربت عنقك ، فقال : بالقتل تهدّدني والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعتها عنهم ، فأمر بضرب عنقه وصلبه ، فلمّا دخل عليه الصادق عليهالسلام قال : يا داود قتلت مولاي ووكيلي ، وما كفاك القتل حتى صلبته ، والله لأدعون الله عليك كما قتله ، فقال له داود : أتهدّدني بدعائك؟ ادع الله لك فإذا استجاب لك فادعه عليّ ، فخرج أبو عبد الله عليهالسلام مغضبا ، فلما جن الليل اغتسل واستقبل القبلة ، ثم قال : يا ذا يا ذي يا ذوا إرم داود سهما من سهام قهرك تبلبل به قلبه ، ثم قال لغلامه : اخرج واسمع الصائح. فجاء الخبر أن داود قد هلك ، فخرّ الإمام ساجدا وقال : إنّه لقد دعوت الله عليه بثلاث كلمات لو قسمت على أهل الأرض لزلزلت بمن عليها (١).
ومن كراماته عليهالسلام : أن المنصور يوما دعاه ، فركب معه إلى بعض النواحي ، فجلس المنصور على تلال هناك وإلى جانبه أبو عبد الله ، فجاء رجل وهمّ أن يسأل المنصور ثم أعرض عنه ، وسأل الصادق عليهالسلام فحثى له من رمل هناك ملء يديه ثلاث مرّات ، فقال : اذهب وأغل ، فقال له بعض حاشية المنصور : خرجت عن الملك وسألت فقيرا لا يملك شيئا ، فقال الرجل وقد عرق وجهه خجلا ممّا أعطاه : إنّي سألت من أنا واثق بعطائه ، ثم جاء بالتراب إلى بيته ،
__________________
(١) بحار الأنوار : ٤٧ / ١٨١ ح ٢٧ وتصويب العبارة منه.