فصل [١٧]
اعلم أنّه لو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضّل الله ـ عزوجل ـ علينا بمعرفته ، وكلّ ما عرفناه قليل نزر بالإضافة إلى ما عرفه جملة الأولياء والعلماء ، وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء ، والملائكة المقرّبون ـ كجبرئيل وإسرافيل وغيرهما ـ صلوات الله عليهم ـ.
ثمّ جميع علوم الأنبياء والملائكة والجنّ والإنس إذا اضيف إلى علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يستحقّ أن يسمّى علما ، بل هو إلى أن يسمّى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب ؛ فسبحان من عرّف عباده ما عرّف ، ثمّ قال مخاطبا جميعهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [١٧ / ٨٥].
فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكّرين في خلق الله ـ عزوجل ـ وليس فيها فكر في ذات الله ، ولكن تستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق ، وعظمته ، وجلاله وقدرته ، وكلّما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله كانت معرفتك بجلاله وعظمته أكثر.
وهذا كما أنّك إن تعظّم عالما بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطّلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره ، فتزداد به معرفة ، وتزداد بحسبه له توقيرا وتعظيما واحتراما ، حتّى أنّ كلّ كلمة من كلماته وكلّ بيت من أبيات شعره يزيده محلّا في قلبك ، ويستدعي التعظيم له من نفسك.
فهكذا تأمّل في خلق الله وتصنيفه وتأليفه ، وكلّ ما في الوجود من