وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
ثم قال تعالى : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي عداوتهم فيما بينهم شديدة ، كما قال تعالى: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام : ٦٥] ولهذا قال تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف ، قال إبراهيم النخعي : يعني أهل الكتاب والمنافقين (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ثم قال تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان : يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر ، وقال ابن عباس : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني يهود بني قينقاع ، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق ، وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم (إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال ، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة ، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ الكفر ، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ). وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل ، لا أنها المرادة وحدها بالمثل ، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها.
فقال ابن جرير (١) : حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول إن راهبا تعبد ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها ، ولها إخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها ، قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده ، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها ، فقال الشيطان للراهب : أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك ، فاسجد لي سجدة ، فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ، فذلك قوله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).
وقال ابن جرير (٢) : حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرّحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية (كَمَثَلِ
__________________
(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧.
(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧.