وقال العوفي عن ابن عباس قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت ، فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، وكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له وبقي ، كما بقي ما ينفع الناس في الأرض ، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار ، فتأكل خبثه ، ويخرج جيده فينتفع به ، فكذلك يضمحل الباطل ، فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق (١) ، وهكذا روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين : ناريا ومائيا وهما قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) [البقرة : ١٧] الآية ، ثم قال (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة : ١٩] الآية ، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين [أحدهما] قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ، ولهذا جاء في الصحيحين : فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا. فيقال : ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا(٢).
ثم قال تعالى في المثل الآخر : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) الآية ، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، ورعوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصابت طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (٣) فهذا مثل مائي.
وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «مثلي ومثلكم كمثل
__________________
(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٠.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤ ، باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢.
(٣) أخرجه البخاري في العلم باب ٢٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٩.
(٤) المسند ٢ / ٣١٢.