والوسط : الخيار والعدول ، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونيّاتهم ، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرّسل على أممهم يوم القيامة ، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم ، لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء ، وأمر ملائكته أن تصلّي عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم ، والشّاهد المقبول عند الله هو الّذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندا إلى علمه به ، كما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١) (٢).
وقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٣).
ويدخل في الخطاب الصَّحابيّ من باب أولى ، فلقد شهد بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر.
وقال تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٤).
فأخبر تعالى أنه اجتباهم ، والاجتباء كالاصطفاء ، وهو افتعال من «اجتبى الشّيء يجتبيه» ، إذا ضمّه إليه وحازه إلى نفسه ، فهم المجتبون الّذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصّته وصفوته من خلقه بعد النّبيين والمرسلين ، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حقّ جهاده ويبذلوا له أنفسهم ويفردوه بالمحبّة والعبوديّة ، ويختاروه وحده إلها معبودا محبوبا على كل ما سواه ، كما اختارهم على من سواهم ، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الّذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم ، فيؤثرونه في كل حال على من سواه كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحبّاءه ، وآثرهم بذلك على من سواهم ، ثم أخبرهم تعالى أنّه يسّر عليهم دينه غاية التّيسير ، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتّة لكمال محبَّته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم ، ثم أمرهم بلزوم ملّة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم ، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحبّ والخوف والرّجاء والتوكّل والإنابة والتفويض والاستسلام ، فيكون تعلّق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره ، ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك
__________________
(١) الزخرف : ٨٦.
(٢) أعلام الموقعين ٤ / ١٠٢.
(٣) آل عمران : ١١٠.
(٤) الحج : ٧٨.