قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : لا يصدّقون. ثم استأنف (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال ابن عباس : إنهم عن النّظر إلى ربّهم يومئذ لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس : لمّا حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشّافعيّ : لمّا حجب قوما بالسّخط دلّ على أنّ قوما يرونه بالرّضى (١). وقال الزّجّاج : وهذه الآية دليل على أنّ الله عزوجل يرى في القيامة. ولو لا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خسّت منزلة الكفّار بأنهم يحجبون عن ربّهم. ثم بعد حجبهم عن الله يدخلون النار ، فذلك قوله عزوجل : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).
قوله عزوجل : (ثُمَّ يُقالُ) أي : تقول خزنة النار : (هذَا) العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا) أي : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محمل (كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) فقال عزوجل : (لَفِي عِلِّيِّينَ) وفيها سبعة أقوال (٢) : أحدها : الجنة ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أنه لوح من زبرجدة خضراء معلّق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنها السماء السابعة ، وفيها أرواح المؤمنين ، قاله كعب ، وهو مذهب مجاهد ، وابن زيد. والرابع : أنها قائمة العرش اليمنى ، وقال مقاتل : ساق العرش. والخامس : أنه سدرة المنتهى ، قاله الضّحّاك. والسادس : أنه في علو وصعود إلى الله عزوجل قاله الحسن. وقال الفرّاء : في ارتفاع بعد ارتفاع. والسابع : أنه أعلى الأمكنة ، قاله الزّجّاج.
قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) هذا تعظيم لشأنها.
قوله عزوجل : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها.
قوله عزوجل : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي : يحضر المقرّبون من الملائكة ذلك المكتوب ، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى علّيين. وما بعد هذا قد سبق بيانه (٣) إلى قوله عزوجل (يَنْظُرُونَ) ففيه قولان : أحدهما : إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
والثاني : إلى أعدائهم حين يعذّبون.
قوله عزوجل : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) وقرأ أبو جعفر ، ويعقوب «تعرف» بضمّ التاء ، وفتح الراء «نضرة» بالرفع. قال الفرّاء : بريق النعيم ونداه. قال المفسّرون : إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم ، لما ترى من الحسن والنّور. وفي «الرّحيق» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الخمر ، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أيّ الخمر هي على أربعة أقوال : أحدها : أجود
__________________
(١) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٤ / ٥٧٤ : وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمهالله في غاية الحسن ، وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دلّ عليه منطوق قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عزوجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنان الفاخرة. اه.
(٢) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٤ / ٥٧٤ ـ ٥٧٥ : أي مصيرهم إلى عليين ، وهو بخلاف سجين ، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو ، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ، ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ثم قال مؤكدا لما كتب لهم (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) وهم الملائكة.
(٣) الانفطار : ١٣.