ينذره ويوجبه على نفسه ، وقد يكون بالفعل بالدّخول فيه. وعموم الآية تتضمّن الأمرين ، فاقتضى ذلك أنّ كلّ من ابتدع قربة ، قولا ؛ أو فعلا ، فعليه رعايتها وإتمامها. والثاني : أنّ المعنى : ما أمرناهم منها إلّا بما يرضي الله عزوجل ، لا غير ذلك ، قاله ابن قتيبة.
قوله عزوجل : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الذين ابتدعوا الرّهبانيّة ، قاله الجمهور. ثمّ في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ما رعوها لتبديل دينهم وتغييرهم له ، قاله عطيّة العوفيّ. والثاني : لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم. والثالث : لكفرهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا بعث ، ذكر القولين الزّجّاج : والثاني : أنهم الذين اتّبعوا مبتدعي الرّهبانيّة في رهبانيّتهم ، ما رعوها بسلوك طريق أوّليهم ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قوله عزوجل : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : الذين آمنوا بمحمّد صلىاللهعليهوسلم. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين لم يؤمنوا به. والثاني : أنّ الذين آمنوا : المؤمنون بعيسى عليهالسلام والفاسقون : المشركون. والثالث : أنّ الذين آمنوا : مبتدعو الرّهبانيّة ، والفاسقون : متّبعوهم على غير القانون الصحيح.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))
قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) عامّة المفسّرين على أنّ هذا الخطاب لليهود والنّصارى ، والمعنى : يا أيّها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتّقوا الله ، وآمنوا برسوله محمّد صلىاللهعليهوسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي نصيبين ، وحظّين (مِنْ رَحْمَتِهِ). قال الزّجّاج : الكفل : كساء يمنع الرّاكب أن يسقط ، فالمعنى : يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي. وقد بيّنّا معنى «الكفل» في سورة النّساء. وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان : أحدهما : أنّ أحدهما لإيمانهم بمن تقدّم من الأنبياء ، والآخر لإيمانهم بمحمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ أحدهما : أجر الدنيا. والثاني : أجر الآخرة ، قاله ابن زيد.
قوله عزوجل : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً). فيه أربعة أقوال : أحدها : القرآن ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : تمشون به على الصّراط ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : الهدى ، قاله مجاهد. والرابع : الإيمان ، قاله ابن السّائب.
قوله عزوجل : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) «لا» زائدة. قال الفرّاء : والعرب تجعل «لا» صلة في كلّ كلام دخل في آخره أو أوّله جحد ، فهذا ممّا جعل في آخره جحد. والمعنى : ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين لم يؤمنوا بمحمّد صلىاللهعليهوسلم (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أي : أنهم لا يقدرون (عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) والمعنى : أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمّد صلىاللهعليهوسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فآتاه المؤمنين. هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين.