قوله عزوجل : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي : حرّكت حركة شديدة وزلزلت ، وذلك أنها ترتجّ حتى يتهدّم ما عليها من بناء ، ويتفتّت ما عليها من جبل. وفي ارتجاجها قولان : أحدهما : أنه لإماتة من عليها من الأحياء. الثاني : لإخراج من في بطنها من الموتى.
قوله عزوجل : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) فيه قولان : أحدهما : فتّتت فتّا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال مجاهد. قال ابن قتيبة : فتّت حتى صارت كالدّقيق والسّويق المبسوس. والثاني : لتّت ، قاله قتادة : وقال الزّجّاج : خلطت ولتّت. قال الشاعر :
لا تخبزن خبزا وبسّ بسّا
وفي «الهباء» أقوال قد ذكرناها في الفرقان (١). وذكر ابن قتيبة أنّ الهباء المنبثّ : ما سطع من سنابك الخيل ، وهو من «الهبوة» ، والهبة : الغبار. والمعنى : كانت ترابا منتشرا.
قوله عزوجل : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أي : أصنافا (ثَلاثَةً). (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وفيهم ثمانية أقوال (٢) : أحدها : أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت ذرّيّته من صلبه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، قاله الضحاك والقرظي. والثالث : أنهم الذين كانوا ميامين على أنفسهم ، أي : مباركين ، قاله الحسن والرّبيع. والرابع : أنهم الذين أخذوا من شقّ آدم الأيمن ، قاله زيد بن أسلم. والخامس : أنهم الذين منزلتهم عن اليمين ، قاله ميمون بن مهران. والسادس : أنهم أهل الجنّة ، قاله السّدّيّ. والسابع : أنهم أصحاب المنزلة الرّفيعة ، قاله الزّجّاج. والثامن : أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنّة ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوري. قوله عزوجل : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) قال الفرّاء : عجّب نبيّه صلىاللهعليهوسلم منهم ؛ والمعنى : أيّ شيء هم؟! قال الزّجّاج : وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التّعجب ، ومجراه من الله عزوجل في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم ، ومثله : (مَا الْحَاقَّةُ) (٣) ، (مَا الْقارِعَةُ) (٤) ؛ قال ابن قتيبة : ومثله أن تقول : زيد ما زيد أيّ رجل هو! (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي : أصحاب الشّمال ، والعرب تسمّي اليد اليسرى : الشّؤمى ، والجانب الأيسر ؛ الأشأم ، ومنه قيل : اليمن والشّؤم ، فاليمن : كأنه ما جاء عن اليمين ، والشّؤم ما جاء عن الشّمال ، ومنه سمّيت اليمن و«الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها. قال المفسّرون : أصحاب الميمنة : هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين ، ويعطون كتبهم بأيمانهم ؛ وتفسير أصحاب المشأمة على ضدّ تفسير أصحاب الميمنة سواء ،
__________________
(١) الفرقان : ٢٣.
(٢) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٤ / ٣٣٥ : وقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي : ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين. وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ، ويؤتون كتبهم بشمائلهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال. وهم عامّة أهل النار ـ عياذا بالله من صنيعهم ـ وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من أصحاب اليمين وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه. اه.
(٣) الحاقة : ٢.
(٤) القارعة : ٢.