وقد سعد النبي الكريم بهذا الخبر الذي تلقاه من ربه ، وأن مالقيه من ثقيف لم يكن إلا حدثا عارضا ، وأن أمداد الله سبحانه وتعالى إليه لا تنقطع أبدا ، وأنه إذا كان الإنس قد أبو أن يقبلوا هذا الخير الذي يدعوهم إليه ، كما أبوا على آذانهم أن تستمع إلى آيات الله يتلوها عليهم ـ فإن لله جندا فى عالم الظلام والضلال ـ عالم الجن ـ قد خرجوا من هذا الظلام إلى النور ، وجاءوا إلى حيث يتلو النبي آيات ربه ، فاستمعوا إليه ، وآمنوا به ، وأصبحوا دعاة لدعوته ، وجندا يدافعون عنها ، ويقاتلون فى سبيلها ..
لقد كان هذا الخبر زادا طيبا للنبى الكريم ، يتزود منه على مسيرة دعوته ، التي توشك أن تنتهى المرحلة الأولى منها ، فيتحول بعدها النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من مكة إلى المدينة ، بعد أن يلتقى بأهل السابقة من الأنصار ، الذين جاءوا ليبايعوه على الإسلام ، والنصرة ، فى بيعتى العقبة الأولى والثانية (١) وهنا فى سورة «الجن» أمر من الله تعالى للنبى بأن يتحدث إلى قريش ، وإلى الناس عامة ، بأنه قد تلقّى وحيا من ربه ، بأن نفرا من الجن ، قد استمعوا إليه ، وآمنوا به ، وتحدثوا عن القرآن الذي استمعوا إليه ، هذا الحديث الذي يصف القرآن ببعض ماله من صفات المجادة والعظمة والجلال ..
وقد يقول قائل : ما الفرق بين الخبر الذي تلقاه النبي فى سورة الأحقاف ، وهذا الأمر الذي تلقاه فى سورة «الجن» وهو يحمل فى كيانه محتوى هذا الخبر الذي تلقاه فى سورة الأحقاف؟ وما الفرق بين أن يجىء الخبر غير مصدّر بالأمر بالقول ، وبين الخبر الذي يجىء مطلقا ، إذا كان القرآن كله فى معرض العرض على الناس ، دون أن يختص النبي بشىء منه يحتجزه لنفسه ، ولا يذيعه فى الناس؟
__________________
(١) انظر فى هذا المبحث الخاص تحت عنوان : بيعة العقبة وليلة الجن «التفسير القرآنى للقرآن» ـ الكتاب الثالث عشر ـ سورة الأحقاف.