وهذا الأسلوب من النظم لا يكون فى غير القرآن ، ونظمه المعجز ، الذي يملك بسلطانه التصريف فى الكلمات ، كما يملك سبحانه وتعالى بقدرته التصريف فى كل شىء .. فلقد تسلط أسلوب الطلب : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) تسلط على الفعلين : أصدق ، وأكون .. جاعلا الفعل الأول مسببا عنه ، وجاعلا الفعل الثاني جوابا له ..
والسؤال هنا : ما الحكمة من مجىء النظم فى الآية على هذا الأسلوب؟ ولما ذا لم يجىء الفعلان الواقعان فى حيز الطلب ، منصوبين معا ، أو مجزومين معا؟ وما سر هذه التفرقة بين الفعلين ، فيكون أحدهما مسبّبا ، على حين يكون الآخر جوابا؟
نقول ـ والله أعلم ـ : إن هذا الاختلاف بين الفعلين ، هو اختلاف فى أحوال النفس ، وتنقلها من حال إلى حال ، فى هذا الموقف المشحون بالانفعالات والأزمات ..
فالموت حين يحضر هذا الإنسان الذي يدافع الأيام بالتسويف والمماطلة فى الرجوع إلى الله ، وعمل الصالحات ـ هذا الموت المطل على هذا الإنسان ، يردّه إلى صوابه ، ويوقظه من غفلته ، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان ، وقد بلغت الروح الحلقوم ، فلا يجد هذا الإنسان بين يديه إلا الأمانىّ ، وإلا الرجاء فيقول : (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ!) .. إن ذلك هو أقصى أمانيه ، وهو غاية مطلوبه .. ثم يخيل إليه من لهفته ، وشدة حرصه على هذا المطلوب ، أنه ـ وقد تمناه ـ أصبح دانيا قريبا ، وأنه قد استجيب له فعلا ، وأن يد الموت قد تراخت عنه قليلا إلى أجل .. وهنا ينطلق مع هذا الأمل فرحا مستبشرا .. إنه الآن يستطيع أن يتصدق .. وإنه إن يتصدق يكن من الصالحين ، الذين يفوزون برضا الله ورضوانه .. ولهذا يخرج من باب الأمانىّ ، ليدخل فى باب