قبل هذا كلّه ، إيماننا بقدرة الخالق ، وبتقديره لكل شىء ، وأننا إنما نعمل لنحقق إرادته مما أودع فى الكائنات من أسباب ، وبما جعل لها من مسببات .. فهذا الإيمان هو الذي يسند الإنسان فى صراعه مع الحياة ، وهو الذي يشدّ عزمه ، ويدفع به إلى غايات لا يتطلع إليها أولئك الذين فقدوا هذا الإيمان ..
وشتّان بين من يعمل ، وهو على يقين بأنه فى رعاية ربّ الأرباب ، وأقوى الأقوياء ، وبين إنسان يعمل معزولا عن الشعور بهذا الإيمان .. يعمل فى حدود جهده البشرى المحدود ، دون سند أو ظهير!
إن النعمة فى كل صورة يتلقاها المرء عليها ، لا يدخل منها على قلب المؤمن بالقدر ، زهو ولا خيلاء .. لأنها من عند الله!
وإن البلاء ، والشدّة ، والضرّ .. لا يقع منها على قلب المؤمن بالقدر ، يأس ولا قنوط من روح الله .. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) .. الكافرون بالله ، وبما قدّر الله!
* * *
والقدر بهذا المفهوم لا يخلى الإنسان من مسئولياته ، إزاء الحياة ، وإزاء التكاليف المنوطة به فيها .. فهو مطالب بأن يجهد جهده ، ويبلى بلاءه فى كل أمر يعرض له ، وأن يلقاه بكل حوله وحيلته ، وأن يجىء إليه بعلله وأسبابه ، التي يراها ويقدّرها .. فإن هو فرّط أو قصّر ، كان ملوما ، وكان أهلا للجزاء الذي يناسب تفريطه ، وتقصيره.
فليس إيمان المؤمن بالقدر ، وبأنه صائر آخر الأمر إلى المصير المقدور له ـ ليس هذا الإيمان بالذي يخلى المؤمن من المسئوليات المنوطة به .. فهو مطالب بأن يقدّر ويفكر ، ويدبّر ، ويعمل بالقدر الذي يسعفه به تفكيره ، ويحتمله جهده ..