والمستند الذي يقوم عليه القول بنزول هذه الآيات بعد غزوة أحد ـ هو ما يروى من أن المشركين حين ظفروا بالمسلمين فى غزوة أحد مثّلوا بالشهداء تمثيلا لم تعرفه العرب ، فبقروا بطونهم ، وصلموا آذانهم ، وجدعوا أنوفهم ، إلى غير ذلك مما يقال من أن المشركين ونساءهم فعلوه بالشهداء ، تشفيّا لما أصابهم فى يوم بدر ، حتى ليقال إن هند بنت عتبة ، زوج أبى سفيان ، بقرت بطن حمزة ـ رضى الله عنه ـ وأخذت كبده ، وأكلت شيئا منها!
ثم تمضى الرواية فنقول : إن النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، حين رأى ما فعل المشركون بحمزة ، وغيره من الشهداء حزن لذلك حزنا شديدا ، وحلف لئن أظفره الله بالمشركين أن يمثّل بسبعين منهم .. وكذلك فعل كثير من المسلمين. فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ..) .. فأخذ النبىّ بما هو خير ، ولم يعاقب المشركين بمثل ما عوقب به ، وكفّر عن يمينه .. واقتدى المسلمون به.
ومما يؤيد القول بأن هذه الآيات مدنية ، ما تضمنته من دعوة المسلمين إلى أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به ، أو يصبروا على ما أصابهم ، فذلك خير لهم ، وأولى بهم .. وتلك حال لم تكن للمسلمين فى مكة ، إذ كانوا ولا قدرة لهم على ردّ العدوان بالعدوان ، وإنما كان الصبر على المكروه ، هو كل عدّتهم فى هذا الدور من الصراع الذي كان بينهم وبين المشركين ..
قوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ـ هو دعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بما هو خير له من الأمرين اللذين خيّره الله سبحانه وتعالى بالأخذ بأيّ منهما ، فى قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ..