وعلى هذا ، فإن أقرب مفهوم إلى النسخ الذي تشير إليه الآية : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) هو نسخ الأمر بالتوجّه بالصلاة إلى البيت المقدس ، وجعله إلى المسجد الحرام .. وكلا المسجدين آية من آيات الله ، إذ قاما بأمره ، وأفاض عليهما من فضله ، فإذا نسخ المسجد الحرام المسجد الأقصى ، فإنما هو نسخ آية بآية ، وتبديل نعمة بنعمة! .. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).
أما قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) ففيه قراءتان : ننسها ، أو ننسأها.
فعلى القراءة الأولى ، يكون من النسيان ، بمعنى أنه تعالى يعفّى آثار بعض شرائعه التي شرعها ، وأحكامه التي قد فرضها فى أجيال الماضين .. قال أبو بكر الرازي :
«إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ، ويرفعه من أوهامهم ، ويأمرهم بالإعراض عنه وكتبه فى الصحف ، فيندرس على الأيام ، كسائر كتب الله القديمة ، التي ذكرها الله فى كتابه ، فى قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) .. ولا يعرف اليوم منها شىء».
وعلى القراءة الثانية ، يكون من النّسأ ، وهو التأخير ، ومعنى هذا أن الله سبحانه قد يؤخر نسخ آية إلى أجل معلوم ، كما أخر نسخ التوجه إلى بيت المقدس ، منذوجّه المسلمون وجوههم إليه فى الصلاة ، إلى أن أمروا بالتحول إلى المسجد الحرام .. بعد سبعة عشر شهرا!.
ونخلص من هذا كله ، إلى القول ، بأن آية النسخ ليست موجهة إلى نسخ آيات من القرآن الكريم ، بآيات أخرى ، وإنما إلى نسخ قبلة وإحلال أخرى مكانها .. وأن النّسأ هو تأخير الحكم الذي دعى به المسلمون إلى التحول إلى البيت الحرام ـ مدّة بلغت سبعة عشر شهرا ، كانوا يتجهون خلالها