قوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ) أي : أيقن وعلم (أَنَّما فَتَنَّاهُ) فيه قولان : أحدهما : اختبرناه. والثاني : ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها (١). وقرأ عمر بن الخطّاب : «أنّما فتّنّاه» بتشديد التاء والنون جميعا. وقرأ أنس بن مالك ، وأبو رزين ، والحسن ، وقتادة ، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو : «أنّما فتناه» بتخفيف التاء والنون جميعا ، يعني الملكين ، قال أبو عليّ الفارسي : يريد صمدا له. وفي سبب علمه وتنبيه على ذلك ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الملكين أفصحا له بذلك ، على ما ذكرناه عن السّدّيّ. والثاني : أنهما عرّجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ، فعلم أنه عني بذلك ، قاله وهب. والثالث : أنه لمّا حكم بينهما ، نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك ، ثم صعدا إلى السماء وهو ينظر ، فعلم أنّ الله تعالى ابتلاه بذلك ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) قال المفسّرون : لمّا فطن داود بذنبه خرّ راكعا ، قال ابن عباس : أي : ساجدا ، وعبّر عن السجود بالرّكوع ، لأنهما بمعنى الانحناء. وقال بعضهم : المعنى : فخرّ بعد أن كان راكعا.
فصل : واختلف العلماء هل هذه من عزائم السّجود؟ على قولين : أحدهما : ليست من عزائم السّجود ، قاله الشّافعيّ. والثاني : أنها من عزائم السجود ، قاله أبو حنيفة ؛ وعن أحمد روايتان.
قال المفسّرون : فبقي في سجوده أربعين ليلة ، لا يرفع رأسه إلّا لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بدّ منها ، ولا يأكل ولا يشرب ، فأكلت الأرض من جبينه ، ونبت العشب من دموعه ، ويقول في سجوده : ربّ داود ، زلّ داود زلّة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب. وقال مجاهد : نبت البقل من دموعه حتى غطّى رأسه ، ثم نادى : ربّ قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء ، فنودي : أجائع فتطعم ، أم مريض فتشفى ، أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحيبا هاج كلّ شيء نبت ، فعند ذلك غفر له. وقال ثابت البنانيّ : اتّخذ داود سبع حشايا من شعر وحشاهنّ من الرّماد ، ثم بكى حتى أنفذها دموعا ، ولم يشرب شرابا إلّا ممزوجا بدموع عينيه. وقال وهب بن منبّه : نودي : يا داود ارفع رأسك فإنّا قد غفرنا لك ، فرفع رأسه وقد زمن وصار مرعشا (٢). فأمّا قوله : (وَأَنابَ) فمعناه : رجع من ذنبه تائبا إلى ربّه ، (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) يعني الذّنب (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) قال ابن قتيبة : أي : تقدّم وقربة. قوله تعالى : (وَحُسْنَ مَآبٍ) قال مقاتل : حسن مرجع ، وهو ما أعدّ الله له في الجنّة. قوله تعالى : (يا داوُدُ) المعنى : وقلنا له يا داود (إِنَّا جَعَلْناكَ) أي : صيّرناك (خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي : تدبّر أمر العباد من قبلنا بأمرنا ، فكأنك خليفة عنّا (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي : بالعدل (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي : لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله عزوجل (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : عن دينه (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ) وقرأ أبو نهيك ، وأبو حيوة ، وابن يعمر : «يضلّون» بضمّ الياء. قوله تعالى : (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) فيه قولان : أحدهما : بما تركوا العمل ليوم الحساب ، قاله السّدّيّ. قال الزّجّاج : لمّا تركوا العمل لذلك اليوم ، صاروا بمنزلة النّاسين. والثاني : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : لهم عذاب شديد يوم
__________________
(١) تقدم الكلام في أن مثل ذلك لا يليق بالأنبياء عليهمالسلام والصواب هو القول الأول : اختبرناه كما جاء في «تفسير» ابن كثير رحمهالله.
(٢) في «اللسان» رعش : بالكسر ، يرعش ، وارتعش : ارتعد.