عزوجل ملكين في صورة إنسيين ، وقيل : لم يأته الملكان حتى جاء منها سليمان وشب ، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته ، فمنعهما الحرس من الدخول ، فتسوروا المحراب عليه ، وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسّرين ، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس ، وروي عن الحسن وقتادة والسدي ، ومقاتل في آخرين.
وذكر جماعة من المفسّرين (١) أنّ داود لمّا نظر إلى المرأة ، سأل عنها ، وبعث زوجها إلى الغزاة مرّة بعد مرّة إلى أن قتل ، فتزوّجها ؛ وروي مثل هذا عن ابن عباس ، ووهب ، والحسن في جماعة. وهذا لا يصحّ من طريق النّقل ، ولا يجوز من حيث المعنى ، لأنّ الأنبياء منزّهون عنه.
وقد اختلف المحقّقون في ذنبه الذي عوتب عليه على أربعة أقوال : أحدها : أنه لمّا هويها ، قال لزوجها : تحوّل لي عنها ، فعوتب على ذلك. وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما زاد داود على أن قال لصاحب المرأة : أكفلنيها وتحوّل لي عنها ؛ ونحو ذلك روي عن ابن مسعود (٢). وقد حكى أبو سليمان الدّمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غزاته ، فأدناه وأكرمه جدّا ، إلى أن قال له يوما : انزل لي عن امرأتك ؛ وانظر أيّ امرأة شئت في بني إسرائيل أزوّجكها ، أو أيّ أمة شئت أبتاعها لك ، فقال : لا أريد بامرأتي بديلا ؛ فلمّا لم يجبه إلى ما سأل ، أمره أن يرجع إلى غزاته. والثاني : أنه تمنّى تلك المرأة حلالا ، وحدّث نفسه بذلك ، فاتّفق غزو أوريا من غير أن يسعى في سبب قتله ولا في تعريضه للهلاك ، فلمّا بلغه قتله ، لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ، ثمّ تزوّج امرأته ، فعوتب على ذلك. وذنوب الأنبياء عليهمالسلام وإن صغرت ، فهي عظيمة عند الله عزوجل. والثالث : أنه لمّا وقع بصره عليها ، أشبع النّظر إليها حتى علقت بقلبه (٣). والرابع : أنّ أوريا كان قد خطب تلك المرأة ، فخطبها داود مع علمه بأنّ أوريا قد خطبها ، فتزوّجها ، فاغتمّ أوريا ، وعاتب الله تعالى داود إذ لم يتركها لخاطبها الأوّل (٤) ؛ واختار القاضي أبو يعلى هذا القول ، واستدلّ عليه بقوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ، قال : فدلّ هذا على أنّ الكلام إنما كان بينهما في الخطبة ، ولم يكن قد تقدّم تزوّج الآخر ، فعوتب داود عليهالسلام لشيئين ينبغي للأنبياء التّنزّه عنهما : أحدهما : خطبته على خطبة غيره. والثاني : إظهار الحرص على التّزويج مع كثرة نسائه ، ولم يعتقد ذلك معصية ، فعاتبه الله تعالى عليها ؛ قال : فأمّا ما روي أنه نظر إلى المرأة فهويها وقدّم زوجها للقتل ، فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء ، لأنّ الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العلم بها.
قال الزّجّاج : إنّما قال : «الخصم» بلفظ الواحد ، وقال : «تسوّروا» بلفظ الجماعة ، لأنّ قولك :
__________________
(١) قال ابن العربي رحمهالله في «أحكام القرآن» ٤ / ٥٤ : وأما قولهم : إنه أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله ، فهذا باطل قطعا ، لأن داود لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه ، وليس في القرآن أن ذلك كان ، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ، فعن من يروى هذا ويسند؟ وعلى من في نقله يعتمد ، وليس يؤثره عن الثقات الأثبات أحد؟
(٢) لا يصح عن ابن مسعود ، وقد ذكره المصنف بصيغة التمريض وهو متلقى عن أهل الكتاب.
(٣) قال ابن العربي رحمهالله في «الأحكام» ٤ / ٥٦ : لا يجوز ذلك عندي بحال ، لأن طموح البصر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة ، فكيف بالأنبياء الذين هم الوسائط المكاشفون بالغيب.
(٤) قال ابن العربي رحمهالله في «الأحكام» ٤ / ٥٧ : هذا باطل يردّه القرآن والآثار التفسيرية كلها.