(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه من تصديق الله تعالى لقولها ، قاله الزّجّاج. والثاني : من تمام كلامها ؛ والمعنى : وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إذا دخلوا بلادنا ، حكاه الماوردي.
قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) قال ابن عباس : إنما أرسلت الهديّة لتعلم أنه إن كان نبيّا لم يرد الدّنيا ، وإن كان ملكا فسيرضى بالحمل ، وأنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كلّ لبنة مائة رطل ؛ وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة ، وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذّكر من الأنثى ، ثم كتبت إليه : إنّي قد بعثت إليك بهديّة فاقبلها ، وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر ، فأدخل فيها خيطا واختم على طرفي الخيط بخاتمك ، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ، فميّز بين الجواري والغلمان ؛ فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه ، فقال له : انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال لبنا من الذهب ؛ فانطلق ، فبعث الشياطين ، فقطعوا اللّبن من الجبال وطلوه بالذهب وفرشوه ، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر ، فلمّا جاء الرّسل ، قال بعضهم لبعض : كيف تدخلون على هذا الرجل بثلاث لبنات ، وعنده ما رأيتم؟! فقال رئيسهم : إنما نحن رسل ، فدخلوا عليه ، فوضعوا اللّبن بين يديه ، فقال : أتمدّونني بمال؟ ثم دعا ذرّة فربط فيها خيطا وأدخلها في ثقب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر ، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إليهم ، ثم ميّز بين الغلمان والجواري ؛ هذا كلّه مرويّ عن ابن عباس (١). وقال مجاهد : جعلت لباس الغلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان ، فميّزهم ولم يقبل هديّتها. وفي عدد الوصائف والوصفاء خمسة أقوال : أحدها : ثلاثون وصيفا وثلاثون وصيفة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، قاله وهب. والثالث : مائتا غلام ومائتا جارية ، قاله مجاهد. والرابع : عشرة غلمان وعشر جوار ، قاله ابن السّائب. والخامس : مائة وصيف ومائة وصيفة ، قاله مقاتل. وفيما ميّزهم به ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أمرهم بالوضوء ، فبدأ الغلام من مرفقه إلى كفّه ، وبدأت الجارية من كفّها إلى مرفقها ، فميّزهم بذلك ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : أنّ الغلمان بدءوا بغسل ظهور السّواعد قبل بطونها ، والجواري على عكس ذلك ، قاله قتادة. والثالث : أنّ الغلام اغترف بيده ، والجارية أفرغت على يدها ، قاله السّدّيّ. وجاء في التفسير أنها أمرت الجواري أن يكلّمن سليمان بكلام الرجال ، وأمرت الرجال أن يكلّموه كلام النساء ، وأرسلت قدحا أن يملأه ماء ليس من ماء السماء ولا من ماء الأرض ، فجرّى الخيل وملأه من عرقها.
قوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي : بقبول أم بردّ. قال ابن جرير : وأصل «بم» : بما ، وإنما أسقطت الألف لأنّ العرب إذا كانت «ما» بمعنى «أيّ» ثم وصلوها بحرف خافض ، أسقطوا ألفها ، تفريقا بين الاستفهام والخبر ، كقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (٢) و (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) (٣) ، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر :
على ما قام يشتمنا لئيم |
|
كخنزير تمرّغ في رماد؟ (٤) |
__________________
(١) هو متلقى عن أهل الكتاب. ولا يصح شيء في تعيين الهدية أو وصفها ، وكل ذلك من الإسرائيليات.
(٢) النبأ : ١.
(٣) النساء : ٩٧.
(٤) البيت لحسان بن ثابت ، ديوانه : ١٤٣.