من حيث لا يرونك ، فانظر ماذا يردّون من الجواب ، وهذا قول وهب بن منبّه. والثاني : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم ، وهذا مذهب ابن زيد. قال قتادة : أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها. وقال مقاتل : حمله بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة ، فرفرف ساعة والناس ينظرون ، فرفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها ، فلمّا رأت الخاتم أرعدت وخضعت وخضع من معها من الجنود. واختلفوا لأيّ علّة سمّته كريما على سبعة أقوال : أحدها : لأنه كان مختوما ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : لأنها ظنّته من عند الله عزوجل ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنّ معنى قولها : «كريم» : حسن ما فيه ، قاله قتادة ، والزّجّاج. والرابع : لكلام صاحبه ، فإنه كان ملكا ، ذكره ابن جرير. والخامس : لأنه كان مهيبا ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. والسادس : لتسخير الهدهد لحمله ، حكاه الماوردي. والسابع : لأنها رأت في صدره «بسم الله الرحمن الرحيم» ، حكاه الثّعلبي.
قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) أي : إنّ الكتاب من عنده (وَإِنَّهُ) أي : وإنّ المكتوب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) أي : لا تتكبّروا. وقرأ ابن عباس : «تغلوا» بغين معجمة وأتوني (مُسْلِمِينَ) أي : منقادين طائعين. ثم استشارت قومها ، ف (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) يعني الأشراف ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا ، كلّ رجل منهم على عشرة آلاف. وقال ابن عباس : كان معها مائة ألف قيل ، مع كلّ قيل مائة ألف. وقيل : كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف.
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))
قوله تعالى : (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي : بيّنوا لي ما أفعل ، وأشيروا عليّ. قال الفرّاء : جعلت المشورة فتيا ، وذلك جائز لسعة اللغة. قوله تعالى : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) أي : فاعلته (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي : تحضرون : والمعنى : إلّا بحضوركم ومشورتكم. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) فيه قولان : أحدهما : أنهم أرادوا القوّة في الأبدان. والثاني : كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب. وفيما أرادوا بذلك القول قولان : أحدهما : تفويض الأمر إلى رأيها. والثاني : تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم. ثم قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي : في القتال وتركه. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) قال الزّجّاج : المعنى : إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة. قوله تعالى : (أَفْسَدُوها) أي : خرّبوها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر. ومعنى الكلام : أنها حذّرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادها. قوله تعالى :
____________________________________
وجاء قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هناك بين يديها ، ثم تولى ناحية أدبا ورئاسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب ، وقرأته وفتحت ختمه ، فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ، ثم قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره ، كون الطائر أتى به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبا وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ، ولا سبيل لهم إلى ذلك.