اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) قال الأخفش : إن قيل : أين المثل؟
فالجواب : أنه ليس ها هنا مثل ، وإنما المعنى : يا أيّها الناس ضرب مثل ، أي : شبّهت بي الأوثان (فَاسْتَمِعُوا) لهذا المثل. وتأويل الآية : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمعوا حالها ؛ ثم بيّن ذلك بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) ، وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وابن أبي عبلة : «يدعون» بالياء المفتوحة. وقرأ ابن السّميفع ، وأبو رجاء وعاصم الجحدريّ : «يدعون» بضمّ الياء وفتح العين ، يعني : الأصنام ، (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) والذّباب واحد ، والجمع القليل : أذبّة ، والكثير : الذّبّان ، مثل : غراب وأغربة وغربان ؛ وقيل : إنما خصّ الذّباب لمانته واستقذاره وكثرته. (وَلَوِ اجْتَمَعُوا) يعني : الأصنام ؛ (لَهُ) أي : لخلقه ، (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ) يعني : الأصنام. قال ابن عباس : كانوا يطلون أصنامهم بالزّعفران فيجفّ ، فيأتي الذّباب فيختلسه. وقال ابن جريج : كانوا إذا طيّبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء ، كالعسل ونحوه ، فيقع عليها الذباب فيسلبها إيّاه ، فلا تستطيع الآلهة ولا من عبدها أن يمنعه ذلك. وقال السّدّيّ : كانوا يجعلون للآلهة طعاما ، فيقع الذّباب عليه فيأكل منه قال ثعلب : وإنما قال : (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين ، إذا كانوا يعظمونها ويذبحون لها وتخاطب ، كقوله : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (١) لمّا خاطبهم جعلهم كالآدميين ، ومثله : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) ، وقد بيّنّا هذا المعنى في (الأعراف) عند قوله تعالى : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٣). قوله تعالى : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فيه ثلاثة أقوال (٤) : أحدها : أنّ الطّالب : الصّنم ، والمطلوب : الذّباب ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : الطّالب : الذّباب يطلب ما يسلبه من الطّيّب الذي على الصّنم ، والمطلوب : الصّنم يطلب الذّباب منه سلب ما عليه ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : الطّالب : عابد الصّنم يطلب التّقرّب بعبادته ، والمطلوب : الصّنم ، هذا معنى قول الضّحّاك ، والسّدّيّ.
قوله تعالى : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظّموه حقّ عظمته ، إذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) لا يقهر (عَزِيزٌ) لا يرام.
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))
قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، (وَمِنَ النَّاسِ) الأنبياء المرسلين ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لمقالة العباد (بَصِيرٌ) بمن يتّخذه رسولا.
__________________
(١) سورة النمل : ١٨.
(٢) سورة يوسف : ٤.
(٣) الأعراف : ١٩١.
(٤) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٩ / ١٨٩ : والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه : وعجز الطالب وهو الآلهة. أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه ، وهو الطيب وما أشبهه ، والمطلوب : الذباب.
ووافقه ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٢٩٦ وقال : اختاره ابن جرير وهو ظاهر السياق.