قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) قد سبق بيانه في هذه السّورة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي : في الذّبائح ، وذلك أنّ كفّار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أمر الذّبيحة ، فقالوا : كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟! يعنون : الميتة.
فإن قيل : إذا كانوا هم المنازعين له ، فكيف قيل : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ)؟
فقد أجاب عنه الزّجّاج ، فقال : المراد : النّهي له عن منازعتهم ، فالمعنى : لا تنازعنّهم ، كما تقول للرجل : لا يخاصمنّك فلان في هذا أبدا ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلّا من اثنين ، لأنّ المجادلة والمخاصمة لا تتمّ إلّا باثنين ، فإذا قلت : لا يجادلنّك فلان ، فهو بمنزلة : لا تجادلنّه ، ولا يجوز هذا في قولك : لا يضربنّك فلان وأنت تريد : لا تضربنّه ، ولكن لو قلت : لا يضاربنّك فلان ، لكان كقولك : لا تضاربنّ ، ويدلّ على هذا الجواب قوله : (وَإِنْ جادَلُوكَ).
قوله تعالى : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي : إلى دينه والإيمان به. و «جادلوك» بمعنى : خاصموك في أمر الذّبائح ، (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من التّكذيب ، فهو يجازيكم به. (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يقضي بينكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الدّين ، أي : تذهبون إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون وهذا أدب حسن علّمه الله عباده ليردّوا به من جادل على سبيل التّعنّت ، ولا يجيبوه ، ولا يناظروه.
فصل : قال أكثر المفسّرين : هذا نزل قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ بآية السّيف. وقال بعضهم : هذا نزل في حقّ المنافقين ، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلتات تدلّ على شركهم ، ثم يجادلون على ذلك ، فوكل أمرهم إلى الله تعالى ، فالآية على هذا محكمة.
قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هذا استفهام يراد به التّقرير ؛ والمعنى قد علمت ذلك (إِنَّ ذلِكَ) يعني ما يجري في السّموات والأرض (فِي كِتابٍ) يعني : اللّوح المحفوظ ، (إِنَّ ذلِكَ) أي : علم الله بجميع ذلك (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل لا يتعذّر عليه العلم به.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))
قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ) يعني : كفّار مكّة (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : حجّة (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أنه إله ، (وَما لِلظَّالِمِينَ) ، يعني : المشركين (مِنْ نَصِيرٍ) أي : مانع من العذاب. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) يعني القرآن ؛ والمنكر ها هنا بمعنى الإنكار ، فالمعنى : أثر الإنكار من الكراهة ، وتعبيس الوجوه ، معروف عندهم. (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي : يبطشون ويوقعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدّة الغيظ ، يقال : سطا عليه ، وسطا به : إذا تناوله بالعنف والشّدة. (قُلْ) لهم يا محمّد : (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي : بأشدّ عليكم وأكره إليكم من سماع القرآن ، ثم ذكر ذلك فقال : (النَّارُ) أي : هو النار.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا