بلغ قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (١) فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى ؛ فلمّا سمعت قريش بذلك فرحوا ، فأتاه جبريل ، فقال : ماذا صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حزنا شديدا ، فنزلت هذه الآية تطييبا لقلبه ، وإعلاما له أنّ الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا. قال العلماء المحقّقون : وهذا لا يصحّ ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم معصوم عن مثل هذا ، ولو صحّ ، كان المعنى أنّ بعض شياطين الإنس قال تلك الكلمات (٢) ، فإنّهم كانوا إذا تلا لغطوا ، كما قال الله عزوجل : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (٣). قال : وفي معنى «تمنّى» قولان (٤) :
____________________________________
وانظر «فتح القدير» ١٦٨١ و «أحكام القرآن» ١٥١٧ وابن كثير عند هذه الآية.
أخيرا : أورد لك الوجه الصحيح في قصة سورة النجم ، والسجود فيها. وقد ورد في ذلك حديثان الأول حديث ابن عباس : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وهذا ثابت عن ابن عباس ، أخرجه البخاري ١٠٧١ و ٤٨٦٢ والترمذي ٥٧٥ وابن حبان ٢٧٦٣ والدار قطني ١ / ٤٠٩. وحديث ابن مسعود ، أخرجه البخاري ١٠٦٧ و ١٠٧٠ و ٣٨٥٣ و ٣٩٧٢ ومسلم ٥٧٦ وأبو داود ١٤٠٦ والنسائي ٢ / ١٦٠ والدارمي ١ / ٣٤٢ وابن حبان ٢٧٦٤ وحديث ابن مسعود أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ سورة النجم فسجد فما بقي أحد من القوم إلا سجد إلا رجل واحد أخذ كفا من حصى ، فوضعه على جبهته ، وقال : يكفيني. قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا. فالوارد الصحيح عن ابن عباس هو المتقدم عنه لا ما رواه عنه الضعفاء والهلكى من ذكر الغرانيق ... هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية فالصحيح في هذا المقام هو الوارد عن ابن مسعود فإنه قد أدرك الحادثة وهي مكية ، بخلاف ابن عباس ، فإنه ما حضرها ولا أدركها ، فالصحيح في هذا ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أحد السابقين الأعلام ، وأما ما رواه جماعة من التابعين ، فإنما تلقّاه بعضهم عن بعض واشتهر بسبب غرابته ، وكان الأصلح لهؤلاء رحمهمالله أن يأخذوا ذلك عن ابن مسعود ، فتنبه والله الموفق ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.
__________________
(١) سورة النجم : ١٩ ـ ٢٠.
(٢) قلت الصواب أن النبي صلىاللهعليهوسلم ما قال ذلك ، ولا زاده الشيطان أيضا بل لا سلطان للشيطان في شيء في شيء من ذلك ، حاشا لله أن يكون للشيطان مدخل على القرآن أو في حال تبليغه ، وما هي إلا روايات عامتها مراسيل ، وكأن بعض الزنادقة حدث بها في عهد التابعين ، فأولع بها هؤلاء فرووها وانتشرت ، والدليل على أن مصدرها رجال مجاهيل لا يعرفون ، هو أنها وردت عن عشرة أو أكثر من التابعين ، ولم يذكر عامتهم من حدثه بها ، فهذا دليل على أن لا أصل لها ، وأنه مفتعلة مصنوعة مزورة ، تروج على من لا علم له ولا دراية ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(٣) سورة فصلت : ٢٦.
(٤) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٩ / ١٧٨ : التمني يعني التلاوة والقراءة قاله الضحاك. وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته على ذلك ، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها ، لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ ، أو حدّث وتكلم ، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه ، أو في حديثه الذي حدث وتكلم (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) يقول الله تعالى : فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله.