ارتاب الورثة بهما ، وهو قول مجاهد. والثالث : أنها شهادة الوصيّة ، أي : حضورها ، كقوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) (١) ، جعل الله الوصيّ هاهنا اثنين تأكيدا ، واستدلّ أرباب هذا القول بقوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) قالوا : والشّاهد لا يلزمه يمين. فأمّا «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدّماته. وقوله تعالى : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) ، أي : وقت الوصيّة. وفي قوله : «منكم» قولان : أحدهما : من أهل دينكم وملّتكم ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير وشريح ، وابن سيرين ، والشّعبيّ ، وهو قول أصحابنا. والثاني : من عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله الحسن وعكرمة ، والزّهريّ ، والسّدّيّ. قوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ) تقديره : أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله تعالى : (مِنْ غَيْرِكُمْ) قولان : أحدهما : من غير ملّتكم ودينكم ، قاله أرباب القول الأوّل. والثاني : من غير عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله أرباب القول الثّاني. وفي «أو» قولان : أحدهما : أنها ليست للتّخيير ، وإنما المعنى : أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم ، وبه قال ابن عباس ، وابن جبير. والثاني : أنها للتّخيير ، ذكره الماورديّ.
فصل : والقائل بأنّ المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة ، أو من غير القبيلة لا يشكّ في إحكام هذه الآية. فأمّا القائل بأنّ المراد بقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصيّة في السّفر ، فلهم فيها قولان : أحدهما : أنها محكمة ، والعمل على هذا باق ، وهو قول ابن عباس. وابن المسيّب ، وابن جبير ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشّعبيّ ، والثّوريّ ، وأحمد في آخرين. والثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢) وهو قول زيد بن أسلم ، وإليه يميل أبو حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ ، قالوا : وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأوّل أصحّ ، لأنّ هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهنّ بالحيض والنّفاس والاستهلال.
قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) هذا الشّرط متعلّق بالشهادة ، والمعنى : ليشهدكم اثنان إن أنتم ضربتم في الأرض ، أي : سافرتم. (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) فيه محذوف ، تقديره : وقد أسندتم الوصيّة إليهما ، ودفعتم إليهما مالكم (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) خطاب للورثة إذا ارتابوا. وقال ابن عباس : هذا من صلة قوله : «أو آخران من غيركم» أي : من الكفّار ، فأمّا إذا كانا مسلمين ، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصّلاة قولان (٣) : أحدهما : صلاة العصر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال شريح ، وابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، والشّعبيّ. والثاني : من بعد صلاتهما في دينهما ، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس (٤). وقال به. وقال الزجّاج : كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال ابن قتيبة : لأنه وقت يعظّمه أهل الأديان.
قوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) أي : فيحلفان (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم يا أولياء الميّت. ومعنى
__________________
(١) سورة البقرة : ١٣٣.
(٢) سورة الطلاق : ٦٥.
(٣) قال الإمام الطبري رحمهالله ٥ / ١١١ : وأولى القولين بالصواب عندنا ، قول من قال : «تحبسونهما من بعد صلاة العصر». وهي الصلاة التي كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، لقربه من غروب الشمس.
(٤) السدي لم يسمع من ابن عباس ، وهذا قول منكر ، ليس بشيء.