(٤٧١) والرابع : أنّ قبيلتين من الأنصار شربوا ، فلمّا ثملوا عبث بعضهم ببعض ، فلمّا صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته ، فيقول : صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفا ما صنع بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضّغائن ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة (١) وذكرنا في «النّصب» في أوّل هذه السّورة (٢) قولين ، وهما اللذان ذكرهما المفسّرون في الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام». فأمّا الرّجس ، فقال الزجّاج : هو اسم لكلّ ما استقذر من عمل ، يقال : رجس الرّجل يرجس ، ورجس يرجس : إذا عمل عملا قبيحا ، والرّجس بفتح الرّاء : شدّة الصّوت ، فكأنّ الرّجس ، العمل الذي يقبح ذكره ، ويرتفع في القبح ، ويقال : رعد رجّاس : إذا كان شديد الصّوت.
قوله تعالى : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) قال ابن عباس : من تزيين الشّيطان. فإن قيل : كيف نسب إليه ، وليس من فعله؟ فالجواب : أنّ نسبته إليه مجاز ، وإنما نسب إليه ، لأنه هو الدّاعي إليه ، المزيّن له ، ألا ترى أنّ رجلا لو أغرى رجلا بضرب رجل ، لجاز أن يقال له : هذا من عملك.
قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) قال الزجّاج : اتركوه. واشتقاقه في اللغة : كونوا جانبا منه. فإن قيل : كيف ذكر في هذه الآية أشياء ، ثمّ قال : فاجتنبوه؟ فالجواب : أنّ الهاء عائدة على الرّجس ، والرّجس واقع على الخمر ، والميسر ، والأنصاب ، والأزلام ، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقع عليه ، ومنبئ عنه ، ذكره ابن الأنباريّ.
(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))
قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أمّا «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأمّا الميسر ، فقال قتادة : كان الرجل يقامر على أهله وماله ، فيقمر ويبقى حزينا سليبا ، فينظر إلى ماله في يد غيره ، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.
قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه لفظ استفهام ، ومعناه الأمر. تقديره : انتهوا. قال الفرّاء : ردّد عليّ أعرابي : هل أنت ساكت ، هل أنت ساكت؟ وهو يريد : اسكت ، اسكت. والثاني : أنه استفهام ، لا بمعنى الأمر. ذكر شيخنا عليّ بن عبيد الله أنّ جماعة كانوا يشربون الخمر بعد
____________________________________
(٤٧١) حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ١٧١ والطبري ١٢٥٢٦ والحاكم ٤ / ١٤١ والبيهقي ٨ / ٢٨٥ والطبراني ١٢٤٥٩ ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وسكت عنه الحاكم ، وصححه الذهبي على شرط مسلم ، وهو كما قال ، ويشهد له ما قبله ، بل ربما تعددت الأسباب فنزلت الآيات في جميع ذلك.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢١٩.
(٢) سورة المائدة : ٣.