أحدهما : أنه العجز بالزّمانة والمرض ، ونحوهما. قال ابن عباس : هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير ، وابن قتيبة : هم أولو الزّمانة. وقال الزجّاج : الضّرر : أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا. والثاني : أنه العذر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) في هؤلاء القاعدين قولان : أحدهما : أنهم القاعدون بالضّرر ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : القاعدون من غير ضرر ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن جرير : والدّرجة : الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة. قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) قال ابن عباس : القاعدون هاهنا : غير أولي الضّرر ، وقال سعيد بن جبير : هم الذين لا عذر لهم.
(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))
قوله تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ) قال الزجّاج : درجات ، في موضع نصب بدلا من قوله تعالى : (أَجْراً عَظِيماً) ، وهو مفسّر للأجر. وفي المراد بالدّرجات قولان (١) : أحدهما : أنها درجات الجنة ، قال ابن محيريز : الدّرجات : سبعون درجة ما بين كلّ درجتين حضر الفرس الجواد المضمّر (٢) سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب مقاتل. والثاني : أن معنى الدّرجات : الفضائل ، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة : كان
__________________
الباقين ، في قول عامة أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب ، أنه من فروض الأعيان ، لقول الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) التوبة : ٤١ ـ ثم قال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً). وروى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من النفاق». رواه أبو داود. ولنا ، قول الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...) الآية. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم ، وقال الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا) ، ولأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يبعث السرايا ، ويقيم هو وسائر أصحابه. وأما الآية التي احتجوا بها ، فقد قال ابن عباس : نسخها قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) رواه الأثرم وأبو داود. ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلىاللهعليهوسلم إلى غزوة تبوك ، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ، ولذلك هجر النبي صلىاللهعليهوسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلّفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك ، وكذلك يجب على من استنفره الإمام ؛ لقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم ، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك ، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ، ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ، ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم.
(١) قال الإمام القرطبي رحمهالله في «تفسيره» ٥ / ٣٢٧ : قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) وقد قال بعد هذا : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل : إن معنى درجة علوّ ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.
(٢) في «اللسان» الحضر : ارتفاع الفرس في عدوه. وضمّرت الخيل : علفتها القوت بعد السمن. وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم تردّه إلى القوت ، وذلك في أربعين يوما. وهذه المدة تسمى المضمار.