والثالث : أنها بمعنى : لكن ما قد سلف فدعوه ، قاله قطرب. وقال ابن الأنباريّ : لكن ما قد سلف ، فإنه كان فاحشة. والرابع : أن المعنى : ولا تنكحوا كنكاح آبائكم النّساء ، أي : كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليّتكم ، من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوّ لكم عنه ، وهذا كقول القائل : لا تفعل ما فعلت ، أي : لا تفعل مثل ما فعلت ، ذكره ابن جرير (١). والخامس : أنها بمعنى «الواو» فتقديرها : ولا ما قد سلف ، فيكون المعنى : اقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء ، ولا تبتدئوا ، قاله بعض أهل المعاني. والسادس : أنها للاستثناء ، فتقدير الكلام : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنّكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إلا ما قد سلف منهم بالزّنى ، والسّفاح ، فإنهنّ حلال لكم ، قاله ابن زيد.
قوله تعالى : (إِنَّهُ) يعني النّكاح ، و «الفاحشة» : ما يفحش ويقبح. و «المقت» : أشدّ البغض. وفي المراد بهذا «المقت» قولان : أحدهما : أنه اسم لهذا النّكاح ، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهليّة : مقتا ، ويسمّون الولد منه : المقتيّ. فأعلموا أن هذا الذي حرّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم. هذا قول الزجّاج. والثاني : أنه يوجب مقت الله لفاعله ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
قوله تعالى : (وَساءَ سَبِيلاً) قال ابن قتيبة : أي : قبح هذا الفعل طريقا.
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))
قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) قال الزجاج : الأصل في أمّهات : أمات ، ولكنّ الهاء زيدت مؤكّدة ، كما زادوها في : أهرقت الماء ، وإنما أصله : أرقت.
قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) إنما سمّين أمّهات ، لموضع الحرمة. واختلفوا : هل يعتبر في الرّضاع العدد ، أم لا؟ فنقل حنبل ، عن أحمد : أنه يتعلّق التحريم بالرّضعة الواحدة ، وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وطاوس ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، والأوزاعيّ ، والثّوريّ ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابه. ونقل محمّد بن العبّاس ، عن أحمد : أنه يتعلّق التّحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث ، عن أحمد : لا يتعلّق بأقلّ من خمس رضعات متفرّقات ، وهو قول الشّافعيّ (٢).
__________________
(١) قال الإمام الطبري رحمهالله في «تفسيره» ١ / ٦٦١ : وهو أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
(٢) قال الإمام الموفق رحمهالله في «المغني» ١١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠ : الأصل في التحريم بالرّضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وأما السنة : ما