قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ) قال الزجّاج : أبواه تثنية أب وأبة ، والأصل في الأمّ أن يقال لها : أبة ، ولكن استغني عنها بأمّ ، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجر له ذكر.
وقوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي : إذا لم يخلّف غير أبوين ، فثلث ماله لأمّه ، والباقي للأب ، وإنما خصّ الأمّ بالذّكر ، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ظنّ الظّانّ أن المال يكون بينهما نصفين ، فلما خصّها بالثلث ، دلّ على التفضيل.
وقرأ ابن كثير ، ونافع وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : (فَلِأُمِّهِ) و (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ*) (١) و (فِي أُمِّها) (٢) و (فِي أُمِّ الْكِتابِ) بالرّفع. وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالكسر إذا وصلا ، وحجّتهما : أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها ، من ياء أو كسرة.
قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) أي : مع الأبوين ، فإنّهم يحجبون الأم عن الثلث ، فيردّونها إلى السّدس ، واتّفقوا على أنّهم إذا كانوا ثلاثة إخوة ؛ حجبوا ، فإن كانا أخوين ، فهل يحجبانها؟ فيه قولان : أحدهما : يحجبانها عن الثلث ، قاله عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيد ، والجمهور. والثاني : لا يحجبها إلا ثلاثة ، قاله ابن عباس ، واحتجّ بقوله : إخوة. والإخوة : اسم جمع ، واختلفوا في أقلّ الجمع ، فقال الجمهور : أقلّه ثلاثة ، وقال قوم : اثنان ، والأوّل : أصحّ. وإنما حجب العلماء الأمّ بأخوين لدليل اتّفقوا عليه ، وقد يسمّى الاثنان بالجمع ، قال الزجّاج : جميع أهل اللغة يقولون : إن الأخوين جماعة ، وحكى سيبويه أنّ العرب تقول : وضعا رحالهما ، يريدون : رحلي راحلتيهما.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) أي : هذه السّهام إنما تقسم بعد الوصيّة والدّين. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ، عن عاصم «يوصى بها» بفتح الصّاد في الحرفين. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «يوصي» فيهما بالكسر ، وقرأ حفص ، عن عاصم الأولى بالكسر ، والثانية بالفتح.
واعلم أن الدّين مؤخّر في اللفظ ، مقدّم في المعنى ، لأن الدّين حق عليه ، والوصيّة حق له ، وهما جميعا مقدّمان على حقّ الورثة إذا كانت الوصيّة في ثلث المال ، و «أو» لا توجب الترتيب ، إنما تدلّ على أن أحدهما إن كان ، فالميراث بعده ، وكذلك إن كانا.
قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فيه قولان : أحدهما : أنه النّفع في الآخرة ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده ، رفع إليه ولده ، وكذلك الولد ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : أنه شفاعة بعضهم في بعض ، رواه عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والقول الثاني : أنه النّفع في الدّنيا ، قاله مجاهد. ثمّ في معناه قولان : أحدهما : أن المعنى : لا تدرون هل موت الآباء أقرب ، فينتفع الأبناء بأموالهم ، أو موت الأبناء ، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر. والثاني : أن المعنى : أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النّفع ، حتى لا يدرى أيّهم أقرب نفعا ، لأنّ الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ، ذكره القاضي أبو يعلى.
وقال الزجّاج : معنى الكلام : أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيّهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح
__________________
(١) الزمر : ٦.
(٢) القصص : ٥٩.