في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية.
وفي تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال : أحدها : أنها سمّيت خمرا ، لأنها تخامر العقل ، أي : تخالطه. والثاني : لأنها تخمر العقل ، أي : تستره. والثالث : أنها تخمّر ، أي : تغطّى. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم. وقال الزجّاج : الخمر في اللغة : ما ستر على العقل ، يقال : دخل فلان في خمار الناس ، أي : في الكثير الذي يستتر فيهم ، وخمار المرأة قناعها ، سمّي خمارا لأنه يغطّي. قال : والخمر هاهنا في المجمع عليها ، وقياس كلّ ما عمل عملها أن يقال له : خمر ، وأن يكون في التحريم بمنزلتها ، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كلّه حرام ، وإنما ذكر الميسر من بينه ، وجعل كلّه قياسا على الميسر ، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر (١) خاصة. فأما الميسر ، فقال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة في الآخرين : هو القمار. قال ابن قتيبة : يقال : يسرت : إذا ضربت بالقداح ، ويقال للضّارب بالقداح : ياسر ويأسرون ، ويسر وأيسار. وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا ويجزّئونها أجزاء ثم يضربون عليها بالقداح فإذا قمر القامر ، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة ، وهو النفع الذي ذكره الله تعالى ، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح ، ويتسابّون بتركها ويعيبون من لا ييسر.
قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، قرأ الأكثرون «كبير» بالباء ، وقرأ حمزة والكسائيّ بالثاء. وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال : أحدها : أن شربها ينقص الدّين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه إذا شرب سكر فآذى الناس ، رواه السّدّيّ عن أشياخه. والثالث : أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز ، قاله الزجّاج. وفي إثم الميسر قولان : أحدهما : أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه يدعو إلى الظلم ومنع الحق. رواه السّدّيّ عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك. وأمّا منافع الخمر ؛ فمن وجهين : أحدهما : الرّبح في بيعها. والثاني : انتفاع الأبدان (٢) مع التذاذ النفوس. وأما منافع الميسر : فإصابة الرجل المال من غير تعب. وفي قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، قولان : أحدهما : أن معناه : وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، قاله سعيد بن جبير والضحّاك ومقاتل. والثاني : وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم أيضا. لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما. وهذا منقول عن ابن جبير أيضا ، واختلفوا بما ذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين : أحدهما : بقوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) (٣) ، قاله ابن جبير. والثاني : بالشريعة الأولى ، وأقرّ المسلمون على ذلك حتى حرّمت.
فصل : اختلف العلماء : هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها
____________________________________
بقوله : نزلت ... من غير عزو لقائل ولا إسناد ، فهذا خبر لا أصل له لخلوه عن الإسناد.
_________________
(١) الجزر : جمع جزور وهي النوق.
(٢) بل الخمر مضرة للجسم ، مضرة للعقل ، والقول المتقدم هو الصواب.
(٣) النحل : ٦٧.