تقتضي ذمّها دون تحريمها ، رواه السّدّيّ عن أشياخه ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وقتادة ، ومقاتل. وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة. والقول الثاني : أن لها تأثيرا في التحريم ، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا والإثم كلّه محرّم بقوله : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) (١) ، هذا قول جماعة من العلماء ، وحكاه الزجّاج ، واختاره القاضي أبو يعلى للعلّة التي بيّناها ، واحتجّ لصحته بعض أهل المعاني ، فقال : لما قال تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، وقع التساوي بين الأمرين ، فلما قال : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) صار الغالب الإثم ، وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم ، فعاد الحكم للغالب المستغرق ، فغلب جانب الخطر.
فصل : فأما الميسر ؛ فالقول فيه مثل القول في الخمر ، إن قلنا : إن هذه الآية دلّت على التحريم ، فالميسر حكمها حرام أيضا ، وإن قلنا : إنها دلّت على الكراهة ؛ فأقوم الأقوال أن نقول : إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر.
قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) ، قال ابن عباس : الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح. قال ابن قتيبة : والمراد بالنفقة هاهنا : الصّدقة والعطاء. قوله تعالى : (قُلِ الْعَفْوَ) ، قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو» ، وقرأ الباقون بنصبها ، قال أبو عليّ : «ما ذا» في موضع نصب ، فجوابه العفو بالنصب ، كما تقول في جواب : ما ذا أنفقت؟ درهما ، أي : أنفقت درهما ، هذا وجه نصب العفو. ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي ، ولم يجعل «ما ذا» اسما واحدا ، فإذا قال قائل : ما ذا أنزل ربّكم؟ فكأنه قال : ما الذي أنزل ربّكم؟ فجوابه : قرآن. قال الزجّاج : «العفو» في اللغة : الكثرة والفضل ، يقال : قد عفا القوم : إذا كثروا. و «العفو» : يأتي بغير كلفة. وقال ابن قتيبة : العفو : الميسور. يقال : خذ ما عفاك ، أي : ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقّة.
وللمفسّرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله ، رواه مقسم عن ابن عباس. والثاني : ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والثالث : أنه القصد من الإسراف والإقتار ، قاله الحسن ، وعطاء ، وسعيد بن جبير. والرابع : أنه الصّدقة المفروضة ، قاله مجاهد. والخامس : أنه ما لا يتبيّن عليهم مقداره ، من قولهم : عفا الأثر إذا خفي ودرس ، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسّرين (٢).
فصل : وقد تكلّم علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فروى السّدّيّ عن أشياخه أنها نسخت بالزّكاة ، وأبى نسخها آخرون. وفصل الخطاب في ذلك : أنّا متى قلنا : إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدّق بفاضل المال ، أو قلنا : أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزّكاة ، فالآية منسوخة بآية الزّكاة ،
__________________
(١) الأعراف : ٣٣.
(٢) قال القرطبي رحمهالله ٣ / ٥٩ : لما كان السؤال في الآية المتقدمة (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن قدر الإنفاق وهو في شأن عمرو بن الجموح فلما نزلت الآية (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ٢١٥] قال : كم أنفق؟ فنزل (قُلِ الْعَفْوَ) والعفو ما سهل وتيسر وفضل ، ولم يشق على القلب إخراجه ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية. وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسّدي والقرظي وغيرهم قالوا : العفو ما فضل عن العيال ونحوه عن ابن عباس.