فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٤)
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب ، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان ، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة ، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه.
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى ، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط ، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى ، ثم ينتقل الحكم في النصارى ، ولفظ (أَهْلِ الْكِتابِ) يعم الجميع ، والضمير في (لَيْسُوا) لمن تقدم ذكره في قوله (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود ، وكذلك أيضا ما حكي عن الفراء أن (أُمَّةٌ) مرتفعة ب (سَواءً) على أنها فاعلة كأنه قال : لا تستوي أمة كذا وإن في آخر الكلام محذوفا معادلا تقديره وأمة كافرة ، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب :
عصيت إليها القلب إنّي لأمرها |
|
سميع فما أدري أرشد طلابها؟ |
المعنى أم غيّ ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه.
قال القاضي أبو محمد : وإنما الوجه أن الضمير في (لَيْسُوا) يراد به من تقدم ذكره ، و (سَواءً) خبر ليس ، و (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) مجرور فيه خبر مقدم ، و (أُمَّةٌ) رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود ، معهم ، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خيارا ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك (لَيْسُوا سَواءً) الآية ، وقال مثله قتادة وابن جريج.
قال القاضي أبو محمد : وهو أصح التأويلات ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : معنى الآية : ليس اليهود وأمة محمد سواء ، وقاله السدي.
قال القاضي أبو محمد : فمن حيث تقدم ذكر هذه الأمة في قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] وذكر أيضا اليهود قال الله لنبيه (لَيْسُوا سَواءً) و (الْكِتابِ) على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط ، والمعنى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم أهل القرآن أمة قائمة ، واختلف عبارة المفسرين في قوله (قائِمَةٌ) فقال مجاهد : معناه عادلة ، وقال قتادة والربيع وابن عباس : معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية ، وقال السدي : القائمة القانتة المطيعة.
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله ، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله ، ويحتمل أن يراد ب (قائِمَةٌ) وصف حال التالين في (آناءَ اللَّيْلِ) ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله ، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)