كالحصن المشيد ، والذخر العتيد ، يستندون فيه إلى أقواله ، ويحتذون على مثاله.
فلما أردت أن أختار لنفسي ، وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي ، سبرتها بالتنويع والتقسيم ، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالا ، وأرسخها جبالا ، وأجملها آثارا ، وأسطعها أنوارا ، علم كتاب الله جلت قدرته ، وتقدست أسماؤه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، الذي استقل بالسنة والفرض ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض ، هو العلم الذي جعل للشرع قواما ، واستعمل سائر المعارف خداما منه تأخذ مبادئها ، وبه تعتبر نواشئها ، فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع ، فهو عنصرها النمير ، وسراجها الوهاج ، وقمرها المنير.
وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى ، وتخليصا للنيات ، ونهيا عن الباطل ، وحضا على الصالحات ، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيدا ، ويمشي في التلطف لها رويدا.
ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه ، ولسانا مرن على آياته ومثانيه ، ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه ، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه ، فثنيت إليه عنان النظر ، وأقطعته جانب الفكر ، وجعلته فائدة العمر ، وما ونيت ـ علم الله ـ إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب ، ويمس من لغوب ، أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف.
فلما سلكت سبله بفضل الله ذللا ، وبلغت من اطراد الفهم فيه أملا ، رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح ، وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح ، وأنها قد أخذت بحظها من الثقل ، فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل.
قال الله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].
قال المفسرون : أي علم معانيه والعمل بها ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «قيدوا العلم بالكتاب» ففزعت إلى تعليق ما يتخيل لي في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني ، وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا محررا ، لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به ، وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز ، وأهل القول بعلم الباطن ، وغيرهم ، فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين ، نبهت عليه ، وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم ، أو نحو ، أو لغة ، أو معنى ، أو قراءة ، وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر كما في كثير من كتب المفسرين ، ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي ـ رحمهالله ـ مفرق للنظر ، مشعب للفكر وقصدت إيراد جميع القراءات : مستعملها وشاذها ، واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ ، كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي ، وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول.
وأنا أسأل الله جلت قدرته ، أن يجعل ذلك كله لوجهه ، وأن يبارك فيه وينفع به ، وأنا وإن كنت من