أن هذه الأمور معجزة ، لا أنها تقدح فى إعجاز القرآن ، لأنا قد بينا وجه كونه دلالة ومعجزة. فإن كان الذى أوردوه بمنزلته فيجب أن يكون معجزا ، وهذه الطريقة واجبة فى كل دلالة وعلة ، أن وجودهما يقتضى نطق الحكم بهما ، لا أنه يقدح فيما دل على أنهما علة أو دلالة ، وإنما يعترض على الكلام بالأمور التى تجرى مجرى الضرورة فيكون كاشفا عن خروج الدلالة من أن تكون دلالة (١).
إذن فالقرآن معجز ، والعرب يعلمون ذلك ، فما الشأن فى العجم ، وكيف يعرفون مزية القرآن؟ ويرى أبو هاشم «أنهم يعرفون المتقدم فى الفقه ، إذا علموا تسليم الفقهاء له ، إلى ذلك ، وإن لم يعرفوا الفقه على التفصيل ، إذا عرفوه على الجملة ، وفصلوا بينه وبين سائر العلوم» (٢).
أما عن الجانب البلاغى عند أبى هاشم فقد رأى أن إعجاز القرآن يرجع لمزيته فى الفصاحة ، ويشرح حد الفصاحة قائلا «إنما يكون الكلام فصيحا لجزالة لفظه وحسن معناه ، ولا بدّ من اعتبار الأمرين لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا ، فإذن يجب أن يكون جامعا لهذين الأمرين ، وليس فصاحة الكلام بأن يكون له نظم مخصوص ، لأن الخطيب عندهم ، قد يكون أفصح من الشاعر والنظم مختلف ، إذا أريد بالنظم اختلاف الطريقة ، وقد يكون النظم واحدا وتقع المزية فى الفصاحة ، فالمعتبر ما ذكرناه ـ لأنه الذى يتبين فى كل نظم وكل طريقة ، وانما يختص النظم بأن يقع لبعض الفصحاء يسبق إليه ، ثم يساويه فيه غيره من الفصحاء فيساويه فى ذلك النظم ، ومن يفضل عليه بفضله فى ذلك النظم» (٣).
وكلام أبى هاشم هنا صريح فى أن النظم لا يصلح أن يكون مفسرا لفصاحة الكلام ، لأن النظم قد يكون واحدا ويفضل أديب صاحبه فيه ، وكأنه يرد بذلك على الجاحظ وأمثاله الذين يرجعون إعجاز القرآن إلى نظمه وطريقته ، ويقول أنه لا يوجد فى الكلام إلا اللفظ والمعنى ولا ثالث لهما ، وإذن فلا بد أن تكون
__________________
(١) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ٣٠٣ و ٣٠٤.
(٢) المصدر السابق ـ ٢٩٦.
(٣) المصدر السابق ـ ١٩٧.