أما طعنهم بأن فى القرآن تطويلا ، فقد بيّن أبو هاشم ، أن فصاحة الكلام إذا كانت تظهر بحسن معانيه واستقامتها والحاجة إليها ، فيجب أن يكون الكلام بحسبها ، فلا بد إذا اختلفت أحوال المعانى أن يختلف الكلام فى التطويل والإيجاز ، لأنه ليس فى قول الله لفظة تعم قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) فلا بد إذا كان الحال هذه ، وجوب بيان المحرمات من النساء ، أن يجرى تعالى الخطاب على هذا الحد ، فمن قال ، كان يجب أن تكون هذه الآية بمنزلة قوله (ثم نظر (١)) فقد ظلم ، وأبان عن جهله بطريقة اللغة ... ، قال : ولذلك اختلفت الآيات فى الطول والقصر لأن الذى جعله آية قد كان قصة تامة ، أو يحل هذا المحل ، وقد بين أهل هذا الشأن : أن التطويل إنما يعدّ عيبا فى المواضع التى يمكن الإيجاز ، ويغنى عن التطويل فيها ، فأما إذا كان الإيجاز متعذرا أو ممكنا ولا يقع به المعنى ولا يسدّ مسدّ التطويل ، فالتطويل هو الأبلغ فى الفصاحة (٢).
وكان يرى فى زوال الاختلاف عن القرآن لونا من ألوان إعجازه (٣) فإن قال قائل. أليس «أقليدس» وصاحب كتاب «المجسطى» (٤) و «صاحب العروض» و «سيبويه» وغيرهم قد اختصوا فيما ظهر عنهم من العلوم بما بانوا به من غيرهم ، ولم يدل ذلك على نبوتهم ولا صلح منهم التحدى لذلك. فهلا وجب مثله فى القرآن ، وأن اختصّ بالمزية لأن مزيته ليس بأكثر من مزية ما ظهر من كتب ما ذكرناه : قيل له : أن (أبا هاشم) (٥) أجاب عن ذلك ، بأن هذه المسألة توجب
__________________
(١) يقصد بقوله تعالى فى سورة المدثر (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر ، ١٨ ـ ٢٤] ف «ثم» هنا أفادت الترتيب مع التعقيب ، بينما الواو فى قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ...) لمطلق الجمع بلا ترتيب فى درجة التحريم.
(٢) المصدر السابق ـ ٤٠١.
(٣) المصدر السابق ـ ٣٢٨.
(٤) المجسطى : كتاب بطليموس ـ وقد قام بترجمته كثير من النقلة قالوا : وصحح المأمون كثيرا من حسابه وأقيسته لمحيط الأرض. والدرجة الأرضية. فكان أرصاد علمائه أول أرصاد فى الاسلام ، انظر فيه كتاب ـ أوليرى ـ مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب ـ ص ٤٧ و ٢٣٧ ترجمة د. تمام حسان ـ ط الأنجلو.
(٥) يقصد الخليل بن احمد.