وقيمة مبحث الأخبار عن الغيوب ، أنه نبع لا ينفد ، يظل يلهم الإنسان المكلف بأن يتدبر القرآن وأن يزيل الغشاء عن البصيرة ، وأن يتأمل ما ذا حدث فى الأزمان الغابرة وما ذا يحدث له وأمامه ، ثم هو يجد الإشارات والدلالات فى قرب أو بعد موجودة فى القرآن. والإنسان هو مركز دائرة الغيب ، ما بعد عن إدراكه فهو غيب له ، وما بعد عن إدراك آبائه ، فهو غيب لهم دونه أن كان قد اكتشف سره. إذن فشئون الكون بعظائمه ودقائقه ، كلها غيب بالنسبة للانسان ، وشئون النفس البشرية وخلجاتها ونزعاتها كلها غيب له أيضا.
ومن ثمّ ، أخبرنا القرآن عن قوم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ، وما كنا نعلم من شأنهم أمرا ، فكان هذا غيبا مضى. معجزا من القرآن وأخبرنا عن أحداث لم يتوقعها العرب آنذاك ثم حدثت بعد ذكرها فى القرآن بوقف قليل ، كقوله تعالى (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) [الفتح ـ ١٦] (١) وغيرها. فكان غيبا فى المستقبل القريب وهو معجز.
ومنه ما كان غيبا فى المستقبل البعيد ، مثل حكاية القرآن عن اليهود أنهم أن كانوا صادقين بكونهم أولياء الله فليتمنوا الموت ثم قال (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [الجمعة ـ ٧] فما تمناه منهم أحد.
وقد تكلم النّظّام بخاصة عن الغيب الماضى والغيب المستقبل (القريب والبعيد) ثم أشار إلى الغيب الكامن فى النفس البشرية ، وأن القرآن أخبر عما فى نفوس قوم وبما سيقولونه وهذا وما أشبه فى القرآن كثير (٢).
وعلى مدى العصور والأجيال تنكشف للناس غيوب عديدة فى أنفسهم وفى عالمهم وفى واقعهم ، ويقرءون القرآن فيجدون إشارات ودلائل فيدركون بعمق مدى قصورهم أمام ملكوت الله سبحانه وتعالى ، ومدى صحة قوله عز اسمه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ـ ٣٨] ومدى إعجاز القرآن لما فيه من أسرار
__________________
(١) المخلفون من الأعراب : هم الذين حلفوا عن «الحديبية» وهم أعراب غفار ، ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم ، والدّيل ، والقوم الذين دعوا إليهم فيما بعد ليحاربوهم ، حتى يسلموا هم بنو حنيفة قوم مسيلمة. وأهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر بعد وفاة النبى صلىاللهعليهوسلم.
(٢) الخياط ـ الانتصار ـ ٤١.