بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه ، وترتيبه ، ومكانة إضماده (١) ، ورصافة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجز بعض ، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق (٢) ويقول فى الآى (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [القصص ـ ٩] ... ما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم (٣) وفى الآية (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان ـ ٢١] يقول : هذه الجملة فى حسن استئنافها غاية (٤) ويقول فى الآية (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ، أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) [الرعد ـ ٣٣] .. وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التى ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق دلق ، أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وانصف من نفسه (٥).
الزمخشرى والجرجانى :
مرت بنا جهود الزمخشرى فى إعجاز القرآن ، وما قدمه فى تفسير القرآن من يد بيضاء. وقد أخذ الزمخشرى عن السّالفين وبخاصة الجرجانى ، بل أنه طبّق نظرية الجرجانى فى النظم ، على ما وردت عليه فى الدلائل ، ولكن كانت للزمخشرى إضافات جليلة. ولم يضف البلاغيون بعده كثيرا إلى ما أضافه ، بل أنهم لم يستوفوا إضافاته (٦).
لقد طبق على القرآن كله ، ما جاء متفرقا فى «دلائل الإعجاز» ، كى التقى بالباقلانى ، وكذا الرمانى. وهذا الالتقاء له مغزاه. فالجهود التى نبتت فى بيئة المعتزلة ومنهم وتلقفها الأشاعرة ، عادت إليهم وقد نضجت ، وعلى أيديهم أثمرت وكان نتاجها الكشاف للزمخشرى.
وإذا استفاد «الكشاف» من «الدلائل» ، فقد استفاد «الدلائل» من
__________________
(١) الإضماد ، من أضمد القوم أى جمعهم وضمهم ، وهنا بمعنى النظم والسبك.
(٢) الزمخشرى ـ الكشاف ـ ٢ / ١٥٣.
(٣) نفس المصدر ـ ٢ / ١٥٦.
(٤) نفس المصدر ـ ٢ / ١٠٧.
(٥) نفس المصدر ـ ١ / ٤٩٧.
(٦) الدكتور شوقى ضيف ـ البلاغة تطور وتاريخ ـ ٢٥٥.