التمثيل والتخييل :
أسلوب آخر من أساليب القرآن يعالجه الزمخشرى فى مبحثه ، أسلوب التمثيل والتخييل ، يقول شارحا دور المثل فى التعبير الأدبى ... ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر ، شأن ليس بالخفى فى إبراز خبيئات المعانى ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيّل فى صورة المحقّق ، والمتوهّم فى معرض المتيقن ، والغائب كأنه شاهد ، ولأمر ما أكثر الله فى كتابه المبين وفى سائر كتبه أمثاله ، وفشت فى كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [الحشر ـ ٢١] ومن سور الإنجيل سورة الأمثال (١).
ويقول فى أسلوب الآية (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب ـ ٧٢] ... ونحو هذا من الكلام كثير فى لسان العرب ، وما جاء القرآن إلّا على طرقهم وأساليبهم .. وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها ، فإن قلت : قد علم وجه التمثيل فى قولهم للذى لا يثبت على رأى واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، لأنك مثّلت حاله فى تمثله وترجّحه بين الرأيين ، وتركه المضى على أحدهما ، بحال من يتردد فى ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضى فى وجهة ، وكل واحد من الممثّل به شىء مستقيم ، داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما فى هذه الآية ، فإن عرض الأمانة على الجماد وإبائه واشفاقه محال فى نفسه غير مستقيم ، فكيف صح بناء التمثيل على المحال به؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول؟ قلت : الممثّل به فى الآية ، وفى قولهم : قيل للشحم أين تذهب لقال ، أسوّى العوج ، وفى نظائره ، مفروض ، والمفروضات تتخيّل فى الذهن كما المحققات ، مثّلت حال التكليف فى صعوبته وثقل محمله ، بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها (٢).
__________________
(١) الزمخشرى ـ الكشاف ـ ١ / ٣١.
(٢) نفس المصدر ـ ٢ / ٢٢٣ و ٢٢٤.