تفكير سيكلوجى أعم يطبع كتاب «الأسرار» كلّه بطابعه ، فالمؤلف لا يفتأ يدعوك بين لحظة وأخرى إلى تجربة الطريقة النفسانية التى يسميها المحدثون (الفحص الباطنى) وذلك أن تقرأ الشعر وتراقب نفسك عند قراءته وبعدها ، وتتأمل ما يعروك من الهزّة والارتياح والطرب والاستحسان ، وتحاول أن تفكر فى مصادر هذا الإحساس ... ومن العناصر الانسانية البارزة فى نظرية المؤلف حرصه على مكانة الذوق والطبع والحس الفنى فى المتعة الأديبة ... ويتصل بهذا ما يلجأ إليه مرارا فى إحالة قارئه إلى المركوز فى الطبائع والراسخ فى غرائز العقول والخواص التى قد فطر الانسان على أن يرتاح لها ويجد فى نفسه هزّة عندها (١).
هذا ما نسجله هنا ـ لنصل عن طريقه إلى القول المسند ، إلى أن عبد القاهر قد بنى نظريته فى النظم على فكرة النحو ومعانى النحو ، متوخيا فى عرضها النقاش الهادئ مع قارئه مستثيرا العقل ومنطقة ثم النفس ورضاها.
وهو فى نهاية كتابه الدلائل ، يثبت أن العمدة فى إدراك البلاغة الذوق والاحساس الروحانى (٢).
ونظريته أيضا قد احتوت حديثا عن الجمال ، والجمال عنده موضوعى لا يخضع للأقوال العامة والقوانين المأثورة ، بقدر ما يرى للحسن مصدرا معلوما وعلة مفهومة وسبيلا يتّخذ للوصول إليه ، وفى الدلائل وهو يخاطب المتحمسين للفظ ، تجده يقول (... ولكن بقى أن تعلمونا مكانة المزية فى الكلام ، وتصفوها لنا ، وتذكروها ذكرا كما ينصّ الشيء ويعين ، ويكشف عن وجهه ويبين ، ولا يكفى أن تقولوا : إنه خصوصية فى كيفية النظم ، وطريقة مخصوصة فى نسق الكلم بعضها عن بعض ، حتى تصفوا تلك الخصوصية ، وتبينوها ، وتذكروا لها أمثلة ، وتقولوا «مثل كيت وكيت» ، كما يذّكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقّش ما تعلم به وجه دقة الصّنعة ، أو يعمله بين يديك ، حتى ترى عيانا ، كيف تذهب تلك الخيوط وتجىء؟ وما ذا يذهب منها طولا وما ذا يذهب منها عرضا؟ وبم يبدأ وبم يثنّى وبم يثلّث ، وتبصر (٣) من الحساب الدقيق ومن
__________________
(١) محمد خلف الله أحمد ـ من الوجهة النفسية ـ ٩٣ و ٩٤.
(٢) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٣٥٥ وما بعدها.
(٣) «وتبصر» معطوف على قوله قبل «حتى ترى عيانا».