كما أنك ترى الرجل قد تهدّى فى الأصباغ التى عمل منها الصورة والنقش فى ثوبه الذى نسج ، إلى ضرب من التخير والتدبر فى أنفس الأصباغ وفى مواقعها ومقاديرها ، وكيفية مزجه لها وترتيبه إياهم ، إلى ما لم يتهدّ اليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب ، كذلك حال الشاعر والشاعر فى توخيمها معانى النحو ووجوهه ، التى علمت أنها محصول «النظم» (١).
فليست القضية ألفاظا تنظم ولكنها أنماط من التأثير النفسى على القارئ أو المستمع يتوخى فيه الناظم أقرب المسالك وأوضحها إلى صوغ الجمال بتفهم مقاديره ومواقعه وكيفية نسجه وترتيبه ومن ثم يضمن التأثير الكامل والفوز عند قارئه أو مستمعه.
وفى كتاب «أسرار البلاغة» يستند الجرجانى إلى هذا الجانب استنادا قويا حين يتكلم عن التشبيه والتمثيل والاستعارة ، أو بمعنى أدق حين يتكلم عن الصياغة والتصوير والجمال ، أى حين يتكلم عن المنزع النفسى فى فن البلاغة (٢).
ومن الشواهد على هذا المنزع النفسى عنده تحليله لأبيات :
ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة : |
|
ومسّح بالأركان من هو ماسح (٣) |
وإذا رجعنا إلى تحليل ناقد كابن قتيبة لهذه الأبيات (٤) أو لأبى هلال العسكرى الذى يسوقها دليلا على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ (٥) عرفنا الفرق الشاسع بين هذين التحليلين ، وما ذهب إليه الجرجانى فى تقصيه الجوانب النفسية وتعقبه المشاعر والخلجات التى أحسها الشاعر وأراد أن ينقلها الينا.
وفى الأسرار أمثلة عديدة يعرفها من قرأ الكتاب ، يقول الأستاذ خلف الله عن المنزع النفسانى عند الجرجانى «وهذه النظرية التأثيرية فى جودة الأدب ، جزء من
__________________
(١) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٦١.
(٢) الجرجانى ـ أسرار البلاغة ـ ٣.
(٣) نفس المصدر ـ ١٥ و ١٦.
(٤) ابن قتيبة ـ الشعر والشعراء ـ ١١.
(٥) أبو هلال العسكرى ـ الصناعتين ـ ٥٨.