لجاز أن يفكر البنّاء فى الغزل ليجعل فكره فيه وصلة الى أن يصنع من الآجرّ ، وهو من الإحالة المفرطة (١).
والتفكير المنطقى ينأى عن الأحكام العامة والأقوال المجملة لأن هدفه الصحة وديدنه الوضوح ، فلا يكفى فى علم الفصاحة (أن تنصب لها قياسا ما ، وأن تصفها وصفا مجملا ، وتقول فيها مرسلا ، بل لا تكون فى معرفتها فى شىء ، حتى تفصّل القول وتحصّل ، وتضع اليد على الخصائص التى تعرض فى نظم الكلم ، وتعدّها واحدة واحدة وتسميها شيئا شيئا ... وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر ، وطلبتها هذا الطلب احتجت إلى صبر على التأمل ، ومواظبة على التدبر ، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام (٢).
فالأدلة والتعليل مقصد الجرجانى ، انظر إليه وهو يقرر أن فصاحة الكناية تأتى من جانبها العقلى وكذا الاستعارة يقول عن الكناية «واذا نظرت اليها وجدت حقيقتها ومحصول أمرها : أنها إثبات لمعنى ، أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. ألا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم : «هو كثير رماد القدر» ، وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضّيافة ، لم تعرف ذلك من اللفظ ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك ، فقلت أنه كلام قد جاء عنهم فى المدح ، ولا معنى للمدح بكثرة الرّماد ، فليس إلا أنهم أرادوا أن يدلّوا بكثرة الرماد أنه تنصب له القدور الكثيرة ويطبخ فيها للقرى والضيافة ، وذلك لأنه إذا كثر الطبخ فى القدور كثر إحراق الحطب تحتها وإذا كثر إحراق الحطب كثر الرماد لا محالة ، وهكذا السبيل فى كل ما كان «كناية» ... وإذا عرفت هذا فى الكناية فالاستعارة فى هذه القضية (٣).
ومن ثم وجد الجرجانى نفسه مطالبا بعد حديثه المفصل عن الاستعارة وفصاحتها بأن يشير إلى غلط العلماء فى تفسير الاستعارة ، وأن يحدد لها معنى يرتضيه ويتوافق مع تفكيره ونظريته فى النظم يقول (... فقد تبين من غير وجه أن
__________________
(١) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٣٦.
(٢) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٢٧.
(٣) نفس المصدر ـ ٢٨٠.