وكانت النتيجة أنك إذا قرأت ما قاله العلماء فى البلاغة وجدت جلّه أو كله رمزا ووحيا وكناية وتعريضا وايماء الى الغرض من وجه لا يفطن له ألّا من غلغل الفكر وأدق النظر (١).
وهذه هى الأسباب التى أدت بالجرجانى إلى الخوض فى الإعجاز مناديا أن إعجاز القرآن فى نظمه وتأليفه لا فى لفظه مهما كان شأن هذا اللفظ.
إعجاز القرآن فى «نظمه» عند الجرجانى :
رفض الجرجانى أن يكون الاعجاز فى :
الألفاظ المفردة : لأن تقدير كونه فيها يؤدى الى المحال ، وهو أن تكون الألفاظ المفردة التى هى أوضاع اللغة ، قد حدث فى حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن وتكون قد اختصت فى أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة فى القرآن ولا يجدون لها تلك الهيئات خارج القرآن (٢).
إذن هو يرد ما ذهب إليه الجاحظ (٣) وأبو هلال العسكرى (٤) وابن رشيق القيروانى (٥) فى تمجيد اللفظ ، فلا شأن اللفظ ونظمه ، لأن نظم الحروف هو تواليها فى النطق فقط ، وليس نظمها بمقتضى عن معنى «فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ربض) مكان (ضرب) لما كان فى ذلك ما يؤدى إلى فساد» (٦) فلا
__________________
(١) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٢٥٠.
(٢) نفس المصدر والصفحة.
(٣) يقول الجاحظ «والمعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى ، والقروى والبدوى ، وإنما الشأن فى إقامة الوزن وتغير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك» البيان والتبيين ١ / ٢٥٣.
(٤) يقول العسكرى ـ ومن الدليل عن أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والأشعار الرائعة ، ما علمت لإفهام المعانى فقط ، لأن الردىء من اللفظ يقوم مقام الجيد منها فى الأفهام ، وإنما يدل على حسن الكلام ، أحكام صنعته ورونق ألفاظه وجودة مطالعة و... و... وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعانى» ـ الصناعتين ـ ٥٧ و ٥٨ وانظر أيضا ١٥٤.
(٥) يقول ابن رشيق «وأما المعانى فهى موجودة فى طباع الناس يستوى الجاهل فيها والحاذق» العمدة ١ / ٨٢ الطبعة الأولى ١٩٢٥ م أمين هندية.
(٦) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٢٥.