فهذا التقليد قد جعل أمر الأعجاز سهلا ومعالجته يسيرا وما على الأديب ألّا أن يقلد العلماء فيما ذهبوا ويحفظ ما سطّروا له ، ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هى؟ ومن أين كثرت الكثرة العظيمة؟ واتسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر (١).
والكتب التى ألفت فى البلاغة تمجد اللفظ ولا تلتفت الى النظم كثيرة ، يقول الجرجانى «واعلم أنك لست تنظر فى كتاب صنّف فى شأن البلاغة ، وكلام جاء عن القدماء ، إلا وجدته يدل على فساد هذا المذهب ، ورأيتهم يتشددون فى إنكاره وعيبه والعيب به ، وإذا نظرت فى كتب الجاحظ وجدته يبلغ فى ذلك كل مبلغ ، ويتشدّد غاية التشدد ، وقد انتهى فى ذلك إلى أن جعل العلم بالمعانى مشتركا ، وسوّى فيه بين الخاصة والعامة ... واعلم أنهم لم يبلغوا فى إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم ، وأنه يفضى بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التحدى من حيث لا يشعر ، وذلك أنه ان كان العمل على ما يذهبون إليه ، من أن لا يجب فصل ومزيّة إلا من جانب المعنى ، وحتى يكون قد قال حكمة أو أدبا ، واستخرج معنى غريبا ، أو تشبيها نادرا. فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس فى الفصاحة والبلاغة وفى شأن النظم والتأليف ، وبطل أن يجب بالنظم فضل ، وأن تدخله المزية ، وان تتفاوت فيه المنازل ، وإذا بطل ذلك ، فقد بطل أن يكون فى الكلام معجز ، وصار الأمر على ما يقوله اليهود ، ومن قال بمثل مقالهم فى هذا الباب (٢).
وليس الأمر فى التقليد أو فى كتب البلاغة ، وإنما هو أيضا فى آفة أخرى عجيبة لاحظها الجرجانى فى كلام المتأخرين ، لاحظ أن لهم «كلام حمل صاحبه فرط شغفة بأمور ، ترجع إلى ما له اسم فى البديع ، إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ، ويقول ليبين ، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع فى بيت فلا ضير أن يقع ما عناه فى عمياء ، وأن يوقع السامع من طلبه فى خبط عشواء. وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده ، كما ثقل على العروس بأصناف الحلى حتى ينالها من ذلك مكروه فى نفسها (٣).
__________________
(١) نفس المصدر ـ ٣٠٣.
(٢) نفس المصدر ـ ١٦٨ ـ ١٦٩.
(٣) الجرجانى ـ أسرار البلاغة ـ ٥.