فقد ارتبط الجانب الدينى بدراسة الإعجاز ، ودراستهما فى نظر الجرجانى فريضة دينية ، فالشعر ديوان وسجل أيام العرب ومفاخرهم ، وهو الميدان الذى تجلت فيه فصاحتهم ، وإذا كان القرآن قد بلغ درجة تقصر عنها قوى البشر ، فعلينا أن ندرس أولا ما استطاعوه ، لندرك عن طريقه ما عجزوا عنه وذلك عن طريق بحث علل التباين وأسباب التفاضل ، ومن ثم يكون الصّادّ عن ذلك «صادّا عن أن تعرف حجة الله تعالى ، وكان مثله مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرءوه ، ويصنع فى الجملة صنيعا يؤدى إلى أن يقلّ حفاظه والقائمون به والمقرءون له ـ ذاك لأنّا لم نتعبّد بتلاوته وحفظه والقيام بأداء لفظه على النحو الذى أنزل عليه ، وحراسته من أن يغيّر ويبدّل إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر ، تعرف فى كل زمان ، ويتوصّل إليها فى كل أوان (١).
ويقول «فانظر أىّ رجل تكون ، إذا أنت زهدت فى أن تعرف حجّة الله تعالى ، وآثرت فيه الجهل على العلم ، وعدم الاستبانة على وجودها ، وكان التقليد أحبّ إليك ، والتعويل على علم غيرك أثر لديك» (٢) ومن ثمّ ، فالتهاون فى دراسة الإعجاز على وجهه من المسلم العاقل ذى القدرة «خيانة من لعقله ودينه» (٣).
وأما عن العلماء ، فقد رآهم الجرجانى مقلدين ، يقول فيهم «واعلم أن القول الفاسد والرأى المدخول ، إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة ، وصيت وعلو منزلة فى أنواع من العلوم غير العلم الذى قالوا ذلك القول فيه ، ثم وقع فى الألسن فتداولته ونشرته ، وفشا وظهر ، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره ، صار ترك النظر فيه سنة ، والتقليد دينا ... وكم من خطأ ظاهر ورأى فاسد حظى بهذا السبب عند الناس ، حتى بوّءوه فى أخص موضع من قلوبهم ، ومنحوه المحبة الصادقة من نفوسهم (٤).
__________________
(١) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٦.
(٢) نفس المصدر ـ ٧.
(٣) نفس المصدر ـ ٧٥.
السياق «إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة .. صار ترك النظر».
(٤) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٣٠٢.