وقد يقولون ،
علمنا من عادات الناس وطبائهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة ويطيعه اللفظ فى صنف
من المعانى ثم يمتنع عليه مثل تلك العبارة ، وذلك اللفظ فى صنف آخر ، وإذا كان
الأمر كذلك فلعل العجز الذى ظهر فيهم عن معارضة القرآن ، لم يظهر لا لأنهم لا
يستطيعون مثل ذلك النظم ولكن لأنهم لا يستطيعونه فى مثل معانى القرآن .
ويتقدم الجرجانى
بقدرة متمكنة من الجدل ، فيتولى شرح فكرة بسيطة ، وهى أن المعانى المبتكرة التى
يبتدعها الشاعر فلا يستطيع شاعر آخر الدنو منها ولو أراد ، أو نيل رونقها ولو
توهم.
ولبشار بيته
الرائع :
كأن مثار النّقع
فوق رءوسنا : وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه كما لعنترة بيتاه :
وخلا الذباب بها
فليس ببارح .. غردا كفعل الشارب المترنّم هزجا يحكّ ذراعه بذراعه .. قدح المكبّ
على الزناد الأجذم
وليست الروعة فى
أن بشارا وعنترة قد أوتيا فى علم النظم جملة ما لم يؤت غيرهما ، ولكن ، لأنه إذا
كان فى مكان خبيء فعثر عليه إنسان وأخذه ، لم يبق لغيره مرام لذلك المكان . ولا يمتنع أن يكون سبيل لفظ القرآن ونظمه هذا السبيل .
ولا بدّ أن يتضح
فى الأذهان أن العرب لم يطلب أن يأتوا بمثل معانى القرآن أنفسها بأعيانها ، بلفظ
يشبه لفظه ، ونظم يوازى نظمه. وحقيقة الأمر. كما يخاطب الجرجانى المعارضين ـ أن
التحدى إلى أن يجيئوا فى أى معنى شاءوا من المعانى ، بنظم يبلغ نظم القرآن فى
الشرف أو يقترب منه ، يدل على ذلك قوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (هود ـ ١٣) أى
مثله فى النظم ، وليكن المعنى مفترى لما قلتم ، فلا إلى المعنى دعيتم ولكن إلى
النظم .
__________________