ويورد الجرجانى فى رده على هذا الزعم ـ قصة أمير المؤمنين على بن أبى طالب مع أبى الأسود الدؤلى ، وقصة ابن عباس حين سأل الحطيئة من أشعر الناس فى الماضين والباقين ، وغيرها من الروايات التى تؤكد تباين وجهات النظر فى تقدير الشعراء ، ثم ينتهى إلى أن «جانب الفضل يجب والتقدم ـ أما لمعنى غريب يسبق إليه الشاعر فيستخرجه ، أو استعارة بعيدة يفطن لها أو لطريقة فى النظم يخترعها (١).
ولو سلموا لامرئ القيس بهذا ـ فهم فى أحد أمرين.
أولا : أنهم بذلك يكونون قد ورطوا أنفسهم فى جهالة حين يدعون على كل من كان فى زمان النبى صلىاللهعليهوسلم من الشعراء والبلغاء قاطبة ، الجهل بمقادير البلاغة.
ثانيا : أو أنهم فى هذه الحالة ، قد علموا ما علموا ، وسكتوا عن إذاعة الأمر راضين بالقتل والسبى والتشريد مع الكتمان على اراحة أنفسهم والتشهير بالقرآن.
هذا عن امرئ القيس ، فما ذا عن الجاحظ؟ قالوا فيه مثلما قالوا فى امرئ القيس ، بيد أن الجاحظ أسهل والجهل فيه أفضح ، فالشرط نقض العادة ، كما يقول الجرجانى ـ أن يعم الأزمان كلها ، وأن يظهر على مدّعى النبوة ما لم يستطعه مملوك قط (٢). وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم ، ففي معنى تقدم واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضم وإياه ذلك العصر ، لا فضل فى ذلك بين الأمصار والأعصار ، إذا حقّقت النظر ، إذ ليس أكثر من أنّ واحدا زاد على جماعة معدودين فى نوع من الأنواع ، وما ذلك فى الإعجاز بشيء وإنما المعجزة ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم ـ إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر ـ أو فوق علومهم ـ إن كان من قبيل ما يتفاضل فيه العلم والفهم (٣).
أما أن يتصور أحد أن العرب علمت من الجاحظ معارضته للقرآن ثم خفت هذه المعارضة ، خوفا منه أو عليه. فهذا أفحش الجهل (٤).
__________________
(١) الجرجانى ـ الرسالة الشافية ـ ٥٩٥.
(٢) المصدر السابق ـ ٥٩٨.
(٣) المصدر السابق ٥٩٨.
(٤) المصدر السابق ٦٠٠.