وهذه القوة النابعة من الصدق تنطبق انطباقا على النظم القرآنى ، وتعتبر سرا من أسرار إعجازه ، فهو أثر من نبع علوىّ ، وقطرة من فيض سماوى ، والحديث فيه غريب عجيب ، لأنه من مكمنه ، من مصدر المصادر ، ومبدع الخلائق ، ومكوّن الأكوان ، من الله ، تعالى جدّه ، وجلّت قدرته وتعظّم اسمه.
فجمع القرآن قوة لصدقه ، وقوة لصدق قائله ـ تعالى الله ـ وقوة لصدق مبلّغه صلوات الله عليه وسلامه ، وقوة لخلوده ودوامه ، مع احتفاظه بكل درجات الغرابة والعجب والإبداع ، بالرغم من توالى السنين بالمئين.
ومما يسترعى النظر فى دراسة الباقلانى لإعجاز القرآن ، اعتباره للوحدة الفنية فيه ، وإشادته بقيمتها وبقدرتها على الإبانة.
فهو يعتبر القرآن كلا متكاملا له خصائصه ، وكذلك يعتبر السورة منه ، فيقوم بتحليلها متدرّجا فيها ليظهر ما ينطوى عليه من خصائص فى النظم لا تقتصر على مجرد روعة استعارة وجمال تشبيه يرد فى الآية أو فى عبارة قصيرة ، بل ينصب إعجازه عليه جملة لا تفصيلا ، فالسورة ـ لا الآية ـ أصغر وحدة فنية فى القرآن ، ويمكن الحكم بها على إعجازه فى النظم ، لأنها فى حد ذاتها يمكن أن تتوافر لها شروط الإعجاز كاملة.
وبذلك يكون الباقلانى قد خرج على منهج السابقين وآرائهم ودراساتهم حين اعتبروا الآية أو العبارة أو بيت الشعر أو شطره أساسا لبحوثهم النقدية البلاغية ، ثم لأحكامهم فى بيان القرآن. ونستشهد فى ذلك بتحليله لسورة النحل (١) وسورة غافر (٢).
نموذج من تحليل الباقلانى للروعة فى آيات الذكر الحكيم :
يقول الباقلانى ، حينما يريد أن يضع أيدينا على أسرار الإعجاز فى القرآن أنه «ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبّق الأرض أنواره ، وجلل الآفاق ضياؤه ، ونفذ فى العالم حكمه ، وقبل فى الدنيا رسمه ، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان
__________________
(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٩١ إلى ١٩٤.
(٢) نفس المصدر ـ ١٩٧ إلى ٢٠٠.